عندما نجح الإنسان في الذهاب للفضاء للمرة الأولى في تاريخه، كانت آمال العالم معقودة على أن هذه الطفرة العلمية والتكنولوجية ستخدم مصالح التنمية الاقتصادية، وأن الرخاء سيعم الجميع. لكن سرعان ما انحرفت هذه الطفرة التكنولوجية عن المصالح المشتركة للإنسانية عندما تم تسخير الفضاء في الحرب الباردة المشتعلة آنذاك بين أقطاب العالم، لتنتشر حينها مصطلحات تعكس هذه الحالة من التنافس والصراع، من عينة «حرب النجوم».

ولعل التنافس المحموم على الفضاء بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة والشرق بقيادة الاتحاد السوفييتي في النصف الثاني من القرن الماضي، وبين الغرب والصين مؤخرًا، كان يبُرَّر دائمًا بأن الفضاء يدخر للإنسانية إمكانات وموارد عديدة، من تلك التي باتت تضن بها الأرض على الإنسان أو لا تملكها بالأساس، وأن من سينجح في السيطرة على هذه الموارد يمكن أن يحرم غيره من الوصول إليها، ليضيف بذلك قوة إلى قوته الأرضية، ويحسم معركة المستقبل لصالحه. وبعد مرور عقود طويلة على حالة التنافس الفضائي تلك، باتت الإنسانية الآن أكثر إدراكًا وأعمق وعيًا بأن الفضاء يجب أن يظل ساحة للتعاون والتكامل، لا موطنًا للحروب والصراعات.

والشواهد على ذلك كثيرة ومطمئنة، فرحلات الفضاء باتت تتم بالمشاركة بين أقطاب العالم المتقدم، وصارت منجزات العلم والتكنولوجيا التي تتحقق في أي مكان متاحة لخدمة أنشطة الفضاء المختلفة. وأصبحت الدول تتعاون بشكل أكبر في إرسال البعثات المشتركة التي تستهدف استكشاف فرص تحقيق التنمية المستدامة على كوكب الأرض.

ونظراً للفوائد والمنافع الكثيرة لتكنولوجيا الفضاء واستخداماتها الواسعة التي بدأت تطال كل شيء على كوكب الأرض، فقد سعت العديد من دول العالم إلى أن تحجز لنفسها مكانًا في العمل الفضائي الدولي.

وعلى رأس هذه الدول دولة الإمارات، التي وعت مبكراً أهمية الفضاء في صنع مستقبل أكثر ازدهارًا واستدامة للعالم، فأنشأت في عام 2014 وكالة الإمارات للفضاء بطموح يصل إلى المريخ، وأطلقت مسبار الأمل الذي شكل أول رحلة فضائية للعرب إلى كوكب المريخ ووضعت دول المنطقة على خريطة العالم في هذا المضمار الفائق التقدم.

ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد وضعت الإمارات لنفسها خطة طويلة الأجل، لا تضمن لها المشاركة الفاعلة في علوم الفضاء فحسب، بل تؤكد أيضاً رؤيتها الراسخة بأن العمل الفضائي يجب أن يوظَّف لخدمة التنمية المستدامة بأبعادها المختلفة التي حددتها مقررات الأمم المتحدة في هذا الخصوص، ذلك أن الإنفاق على الفضاء ليس غاية في حد ذاته، بل هو وسيلة فائقة الأهمية للتغلب على التحديات التي تعترض الإنسانية على الأرض وضمان استدامتها.

وتجسيدًا لوعي الإمارات للعلاقة الوثيقة بين أنشطة أبحاث الفضاء وخدمة مصالح الإنسان، تأتي مهمة «طموح زايد 2» التي أطلقها مركز محمد بن راشد للفضاء ضمن برنامج الإمارات لرواد الفضاء، لتؤكد هذه المهمة من جديد على الريادة الإماراتية في إيفاد أول رائد فضاء يمكث في مهمة فضائية هي الأطول عربيًا في محطة الفضاء الدولية.

وإذا كان من المنتظر أن تثري رحلة رائد الفضاء الإماراتي، سلطان النيادي، معرفتنا حول تأثيرات الفضاء على الإنسان، فإن ذلك ليس بالتأكيد نهاية المطاف للشغف الإماراتي حول الفضاء. فبرغم أن الدولة صارت الآن في المرتبة الـ11 عالميًا والأولى عربيًا في أنشطة الفضاء المختلفة، فإن الأمل سيظل يحدوها دائمًا لتقطع خطوات جادة نحو امتلاك وتطوير التكنولوجيا الوطنية المتصلة بالفضاء وعلومه المختلفة. ولِمَ لا، وطموح زايد كان دائمًا أن يعود العلم بالخير العميم على البشرية جميعها.

*باحث رئيسي- مدير إدارة النشر العلمي- مركز تريندز للبحوث والاستشارات