تعوّدنا أن نمدح العلم ونُكيل له عبارات التّبجيل، والعلم أحقّ بذلك، ألم يمدحه الباري تعالى في كتابه العزيز وجعله أعزَّ ما يطلب؟ كيف لا، وبه يُرْفعُ المؤمن درجاتٍ دنيا وأخرى، ويحقُّ للإنسان أن ينضم به إلى الله وملائكته في الشّهادة الكبرى، كما في الكتاب العزيز؟
كما تعوّدْنا أن نذمّ الجهل، وحقيقٌ بالجهل أن يُذمّ، أليس الجهلُ نقصاناً، ويحرم المرء نيل إنسانيته وتحقيق كرامته، إذ الجهل ظُلمةٌ، وصاحبُه أدنى إلى البهيمية، خاصة إذا لم يكن لجهله واعياً، وكان للعلم مُدّعياً؟!
تعودنا أن نمدح العلم ونذمّ الجهل، لكن ألا يمكن أن نرى للجهل وجهاً آخر يستحقّ المديح؟ 
ننطلق من مدح الجهل من تجربة سقراط الفكرية، الذي قيل إنه كان حكيم زمانه باعتقاده أن الشيء الوحيد الذي يعلمه، هو أنه لا يعلم شيئاً. فكأنه، وهو أحكم حكماء عصره، جعل الجهل قلادةً تُزيِّنُ صدره. وهذا الموقف السّقراطي ناتجٌ عن موقف فكري يعتبر أن الذي لا يشعر بالجهل لن يتحرك أبداً إلى التّعلم لرضاه بما هو عليه من اعتقاد العلم، فيصبح الكبرُ له حجاباً، والعُجْبُ لشخصه رداء، كما هو حال سَفسطائيي زمانه. لذلك كان الإقرار بالجهل المقدّمة الشّعورية الأولى للتّعلم، ولعله لهذا السّبب جعل أفلاطون الدّهشةَ محركاً للنّظر باعتبارها موقفاً من العالم يرى الأشياء المألوفة وكأنها تُرَى لأول مرة، فيُحرّك هذا الموضعُ البحثَ المعرفي، فينطلق بعيون جديدة لا تقتصر على بادئ الرأي المُحمّل بالأوهام والظّنون والمُسْبَقَات والتّخيلات. فالله تعالى أخرجنا من بطون أمّهاتنا لا نعلم شيئاً، ووهبنا أدوات المعرفة، ولولا هذا الموقف الأول المشبع بالنّقص ما تنافس النّاسُ في الكمالات، ومن هنا أهمية الدّهشة والشكّ والحيرة عند الفلاسفة، فمن الدّهشة ينطلق السؤال، والسؤال بوابة المعرفة الأول، ومن هنا تنافُسُ المتنافسِين في تحدّي الجهل، صنع ذلك إبراهيم عليه السلام بإرادة علم حياة الموتى، ورامه موسى عليه السّلام بإرادة العلمِ بربّه عياناً، لولا استحالة الرؤية. بل إن أباحامد الغزالي، وهو حجة الإسلام عند المسلمين، لم يكن يرى يقينا دون تقدّم شك، كما عبّر عن ذلك في كتابه «ميزان العمل»، والشكُّ المنهجي إقرار بالحيرة النّاهضة إلى المعرفة اليقينية، كما أبرز من بعدُ ديكارتُ أبو الفلسفة الحديثة، والحيرة ضرب من معرفة جليلة يسكنها الجهل. وإمامنا مالك، رضي الله عنه، كان يرى في قول «لا أدري» وجهاً آخر من وجوه العلم.
إن المواقف التي تنمُّ على مدح الجهل لا تكاد تُعدُّ. فقد تضافر حكماء الأمم على النّظر إلى الجهل قيمةً وجوديةً لا تنفك عن الإنسان، ويحق للمرء أن يعترف بها، وخاصة حين يقيس إلى حجم جهله مقدار علمه. 

وإن ادّعاء العلم مُحْوجٌ إلى التّربية، وهو ما صنعه الباري تعالى مع نبيّه موسى عليه السلام في القصّة الشهيرة في سورة الكهف، حيث كشف له «علماً لَدُنيّاً» يتجاوز قدرات البشر في الفهم والاستيعاب، ولذلك ما كان عليه أن يدّعي علماً أشبه بنقرة طائر على صفحة البحور السبعة. ولذلك علَّم الرّسولُ «صلى الله عليه وسلم» المسلمين أن يقولوا عند السؤال: «الله ورسوله أعلم». وكان علماؤنا الكبار عندما يختمون كتبهم يختمونها بعبارة «والله أعلم»، مدحاً لجهلهم قياساً إلى علمهم. والله تعالى أعلم. 

*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.