استئناف العلاقات وتبادل سفراء البلدين في غضون شهرين، هو ما أفضى إليه الاتفاق السعودي - الإيراني الذي رعته الصين كخطوة على طريق أمل تصفير المشاكل العالقة بين الطرفين. الحوار هو السبيل الوحيد لحل الخلافات، ودول المنطقة تعي تماماً أنه يتطلب وجود قنوات مفتوحة لتبادل وجهات النظر فيما بين الأطراف المتنازعة وطرح الاقتراحات التي من شأنها أن تؤدي إلى حلول تنهي أي نزاع.
وكان من الطبيعي أن تعبر الإمارات عن ترحيبها بالاتفاق واستئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران، وهو ما من شأنه أن يرسخ مبادئ حسن الجوار ودعم الحوار الإيجابي والمثمر بين دول المنطقة، ويقودها بالتالي إلى استمرار عمليتي البناء والتنمية لما يفيد شعوب المنطقة على وجه التحديد.
واشنطن رحبت بالاتفاق، لكنها تبدو قلقة لتراجع نفوذها في المنطقة في مقابل الدور الصيني الذي يتصاعد فيها. الخبراء والمحللون الإستراتيجيون يرون أن انعقاد الاجتماع بين الطرفين السعودي والإيراني في بكين يعني دخول التنين الصيني بقوة إلى الساحة السياسية والاشتباك عملياً مع القضايا والملفات الإقليمية والدولية ذات التأثير المباشر على أمن واستقرار منطقتنا. ومن زاوية أخرى للمشهد يبدو أننا سنشهد تفاقم الأزمة الأميركية مع ارتفاع التضخم وبوادر انهيار البنوك. أما في قلب الصورة فأزمة القارة الأوروبية بسبب الحرب الأوكرانية-الروسية تشير إلى ما يمكن تفسيره بنقل الثقل السياسي من الغرب إلى الشرق.
قد يكون هذا سابق لأوانه، لكن صداه يتردد في الإعلام الغربي نفسه. صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية اعتبرت الاتفاق بمثابة هزة في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، ومؤشر على زيادة نفوذ بكين في المنطقة، فيما جاء تعليق موقع «فوكس» الأميركي صادماً حين نشر عبارة (مرحبا بلحظة ما بعد أميركا في الشرق الأوسط)، ما يعني أن الاتفاق سيأتي بأطروحات جديدة في المنطقة، والتي يمكن أن تغير مسار التعاطي معها من قبل الغرب، وهو بالتالي انتصار دبلوماسي لبكين، وتأكيد على دورها المحوري كواحدة من القوى العظمى.
لا شك أن الاتفاق السعودي - الإيراني سيسهم بشكل ما في فرض نوع من التهدئة التي ستتيح حل العديد من الملفات التي تؤثر سلباً على استقرار المنطقة، وخصوصاً في كل من اليمن والعراق وسوريا ثم لبنان. ولعل طهران تعي جيدا أنها أمام اختبار جاد لمدى التزامها وصدق نواياها تجاه جيرانها، وعليها بالتالي اتخاذ إجراءات لبناء الثقة معهم بحيث تترجم هذه الخطوة إلى سياسات واقعية وعملية على الأرض، والجميع بانتظار تحركها لفتح صفحة جديدة من العلاقات مع كافة دول المنطقة، مع الالتزام بمبادئ المواثيق والأعراف الدولية.
إن الاتفاق بين العاصمتين ما هو إلا بداية، والاختبار الأول يجب أن يكون في لبنان الذي يعاني أزمة اقتصادية طاحنة بسبب أزمات سياسية عديدة ومعقدة، وقد يسهم الاتفاق بين الرياض وطهران في الدفع باتجاه التوافق والحوار بين القوى السياسية لإنهاء ما بينها من خلافات جذرية، وبما ينعكس إيجاباً على لبنان الذي بلغ حافة الهاوية على جميع المستويات ومختلف الصعد، وخصوصاً بعد أن بلغ اقتصاده حد الانهيار.
إن قدر منطقتنا العربية ككل في التقدم والاستقرار والازدهار لن يتم ويتحقق إلا بالتلاقي والحوار الدائمين، وتقديم المشترك ونبذ كل عوامل الخلاف والتباعد، وغير ذلك لن تقوم لنا قائمة، ولن نتمكن كمجموعة عربية من الحفاظ على أدنى درجة من التفاهم الذي يحقق مصالحنا مجتمعين.