يعود التشغيب على مفهوم العلمانية باعتباره ضد الدين؛ وتسبيب ذلك يعود لعدم التفريق بين العلمانيات، لأن لكل علمنة بيئتها. وتعتبر إشكالية العلمنة جزء من القصور في فهم معنى وتصور مفهوم الدولة في التراث الإسلامي. 
ومفهوم الدولة من أبرز ما انشغل به الباحثون عبر العصور، إلا أن ذلك القلق لم يصنع نموذجاً بديلاً للمسلمين يمكنهم من الوقوف ممانعين بوجه التطبيقات الناجحة لمفاهيم كبرى ساهمت في تمتين الدولة الحديثة على النحو الذي حدث بالتجارب العلمانية الأوروبية. 
وإلى اليوم والتيارات المتطرفة «الإسلاموية» تنطلق في أدبياتها من خلال مفهوم الدولة، سواء بحلم «الدولة الإسلامية» والتطبيقات التاريخية، أو بخيالات عودة الخلافة بأمميتها. ولا يمكن إغفال قلق المسلمين تجاه الدولة الحديثة تلك التي تكوّنت بعد الثورتين الإنجليزية ثم تلتها الفرنسية بقرنٍ من الزمان، حينها تخلّق مفهوم علمنة الدولة انطلاقاً من إشكالية دينية مسيحية بلا شك لكنه تحوّل إلى نمط حكم مهم جعل الإدارة السياسية أكثر إنسانية وأقدر على تطبيق القانون، وأجدر بضبط التفاوتات بين الناس، وهو مفهوم لم ينبت كالكمأة بل له جذوره وأطواره وتاريخه، كذلك الأمر في فصل السلطات الذي تعتمده الدولة الحديثة اليوم، فهو قديم تم استلهامه من تطبيقات القبائل الجرمانية.
لا بد في مجالٍ كهذا من العودة لمحمد أركون الذي يحلل في كتابه «تحرير الوعي الإسلامي» موضوع الثورة الفرنسية باعتبارها نقطة البدء للأزمنة الحداثية الكبرى عبر صراع البرجوازية والكنيسة، أو بين العلمانيين والأصوليين، متسلحاً بأطروحات إيميل بولا التي يشير إليها باهتمام مثل «الكنيسة ضد البرجوازية» و«التاريخ والعقيدة اللاهوتية» و«الأزمنة الحداثية داخل المسيحية الكاثوليكية». 
ويحذر أركون من جعل العلمانية مقابل الدين، إذ يقول: «ينبغي العلم بأن حركة الدنيوة أو ما ندعوه بالعلمانية، لا تعني أبداً التصفية الراديكالية للدين كما يتوهم بعضهم وأكثرهم، على العكس فإن الأديان لا تزدهر إلا في ظل العلمانية»؛ إذ لا معنى من تحويل المفهوم إلى نمطٍ تطبيقي خاص بالتجربة الأوروبية بعد الثورات، ولا بكونها حالة «مسيحية» كما يعبر الأستاذ محمد الجابري، بل تطورت. 
ويشتغل المفهوم كغيره من المفاهيم التي تظلّ مضيئة تصقلها التجارب ضمن حركته في التاريخ، فالتجربة العلمانية في القرن الحادي والعشرين تختلف عنها قبل ثلاثة قرون، وعلمانية كل دولة هي بصمة نظامها الخاص كالفرق بين العلمانيات الثلاث الفرنسية والإنجليزية والألمانية، وهو فرق واضح وساطع. كذلك الأمر بين العلمانية التركية والهندية واليابانية؛ كل دولة تصنع نموذجها العلماني طبقاً لسيرورة المجتمع والدولة والحالة الثقافية والاقتصادية.
من هنا بات لزاماً على المفكرين المسلمين الدخول ضمن نطاق تحليل أوسع للحديث عن إشكالية تصور الدولة والموقف من العلمنة، وأشير إلى كتاب نفيس طبع أوائل الثمانينيات لرضوان السيد بعنوان «الأمة والجماعة والسلطة… دراسات في الفكر السياسي العربي والإسلامي».
الفرصة الآن متاحة للفهم، وتجاوز النظرة التآمرية للغرب ومفاهيمه، وبخاصة ما يتعلق بمعاني العلمنة وتطبيقاتها، فالموضوع أسهل وأبسط مما خُيّل للبعض؛ إذ الدولة هي نمط من تصور نموذج رشيد صالح يعنى بشؤون المجتمع وإدارة تفاوتاته وضبط صراعاته.

فهد سليمان الشقيران

كاتب سعودي