الحروب الأهلية مفنية للدول والحكومات والمؤسسات، ومهلكة للشعوب والسكان فرادى وجماعات، وهي مع تدميرها للقوات العسكرية المشاركة فيها من كل طرفٍ وتدميرها للجيوش والقوات، تقضي على ميزانيات الدول وكل الخدمات الضرورية المُلحة، لأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. على المدى القصير، فإن الحرب الأهلية التي بدأت تتشكل بوادرها في السودان المرزأ بها طويلاً ستأكل الأخضر واليابس في بلدٍ منهكٍ أصلاً من الحكم الأصولي الطويل، ومن التقسيم ودعوات الانفصال والبنية التحتية السيئة والخدمات الأساسية، التي لا ترضي الشعب، ولا تقضي على معاناته، ومن أهمها الخدمات الصحية التي لا غنى للبشر عنها.

تتناقل وسائل الأنباء خروج عدد من المستشفيات الكبرى عن الخدمة عجزاً منها عن استقبال الأعداد الكبيرة من المصابين جرّاء الاقتتال الدامي والقذائف والصواريخ التي لا تفرق بين العسكريين والمدنيين، فضلاً عن الخدمات الصحية ظلت تعاني طويلاً في السودان، وكان كثير من السودانيين في بعض الأمراض يسعون جهدهم للحصول على العلاج في دول الجوار العربي، وهو ما سيزيد سوءاً فيما لو طال أمد هذه الحرب الأهلية.

هذا على المدى القصير. أما على المدى الطويل، فإن الحروب الأهلية لا تأتي بخيرٍ مطلقاً، وحين يتعب الفرقاء ويضطرون للهدوء والتفاهم، فإما أن يؤدي ذلك للتقسيم والانفصال، وإما أن يخضع طرفٌ لآخر بشكل أو بآخر، وهذا أمرٌ ما زال بعيد المنال، ومن المظاهر الجلية لذلك هو انعدام الاهتمام بالخدمات الصحية واختلال قدرة المستشفيات على استيعاب الناس، بسبب الانتكاسات التي لا تترك مجالاً لترتيب الأولويات والعناية بكل الحالات والقيام بكل الاحتياجات.

ظهرت بالأمس صورٌ لبعض الجثث المتفحمة في الشوارع، وهي صور عادية في حالات الحروب الأهلية والصراعات المسلحة الداخلية، وهي جزء من كلٍ، ومجموعة صغيرة من صورةٍ أكبر وأكثر مأساوية لم تصل للإعلام بعد، وما تقوله هذه الصور هو أن امتداد الحرب واشتدادها سيزيد الأمر ضغثاً على إبّالة وسوءاً على سوءٍ. بحكم التجربة الإنسانية والخبرات البشرية، فإن الحروب الأهلية لا تفكّر في عواقب كثرة القتلى دون دفنٍ، وهو ما يشكل خطراً كبيراً على المستقبل لا يقل فتكاً عن الرصاص والمتفجرات والصواريخ، ألا وهو الأوبئة والفيروسات المسببة للعدوى والتي حين تتفشى تقتل البشر بأرقامٍ لا تقاربها أرقام القتال الشرس، ثم إنها تبدأ في الانتقال خارج الحدود السياسية والجغرافية مشكلة موجاتٍ جديدةٍ يواجهها العالم بأسره.

ذاكرة البشر مع الأوبئة الفتاكة حاضرة بقوة في هذه المرحلة التاريخية، فلم ينس البشر بعد تداعيات فيروس كورونا الذي فتك بالبشرية في السنوات الثلاث الأخيرة وما زالت بعض الدول لم تتجاوزه بعد وذيوله ممتدة في كل العالم، وآثار الحروب الأهلية تنذر دائماً بأوبئة قديمة تنتعش وأوبئة جديدة تنتشر، وهو ما لا يرجو أحدٌ أن يجري في السودان.

الحل الأنجع والأفضل أن تلتقي مصالح الدول الإقليمية والقوى الدولية على إيجاد مخرج حقيقي للأزمة السودانية، التي تتحول حرباً أهليةً بسرعة البرق، وأنه كلما استطاع العالم الإسراع بإيجاد حلول تنهي الأزمة، قلّت مخاطر هذه الحرب ومنها الأوبئة والفيروسات والأمراض المعدية، وهي أوبئة سيدفع العالم كله فاتورةً غاليةً لاحتوائها والسيطرة عليها فيما لو حدث ذلك.

في السودان موارد طبيعية يمكن حين إدارتها بنزاهة أن توفر متطلبات المواطنين الملحة وطموحاتهم المشروعة، ولكن الأزمات والحروب والأصولية والصراعات المسلحة لم تترك الشعب السوداني يستفيد من موارده ويعيش في خيرات بلده. أخيراً، فالصراعات المسلحة لا تنتهي سريعاً، والحروب الأهلية تستمر بالتدخلات الأجنبية، التي لا تلبث طويلاً حتى تخرج للسطح وتؤثر في الواقع.

* كاتب سعودي