أعلنت مصادر رسمية روسية أن هجوماً قد وقع بطائرتين مسيرتين على مقر إقامة الرئاسة الروسية (الكرملين) ليلة الثالث من مايو الجاري، وأنه تم إحباط الهجوم ووقوع أضرار طفيفة. وعلى الفور نفت أوكرانيا الاتهامَ الموجه لها بالوقوف وراء الهجوم واتهمت روسيا بمحاولة تبرير تصعيد قادم تنوي القيام به! ويمثل هذا معضلة حقيقية للمحللين السياسيين الذين لا يستطيعون معرفةَ تطورات الأحداث كاملة وبدقة، مما يجعل تحليلاتهم قاصرة. وتزداد المشكلة بطبيعة الحال في أجواء الحروب التي تغطي السريةُ جانباً كبيراً من تطوراتها لعلاقة ذلك بالأمن المباشر للقوات المقاتلة والروح المعنوية للمجتمعات التي تشهد الحروب.. ولا يجد المحلل السياسي مخرجاً من هذه المعضلة سوى أن يبحث في كل الاحتمالات ويحاول استخلاص دلالاتها، بحيث يفترض أن أياً من الطرفين قد يكون صادقاً أو كاذباً ويبحث في دلالات الاحتمالين. ولعل هذا هو مغزى تسمية الأداة التحليلية الشهيرة التي ابتكرها إدوارد عازار، عالم السياسة الأميركي ذو الأصل اللبناني، والمسماة بتحليل بيانات الأحداث events data analysis، والتي تحاول استخلاص النماذج التي يكشف عنها تطور ظاهرة معينة من خلال تحليل الأحداث المرتبطة بها. لكن اللافتَ هو الإشارة في المُسَمى إلى «بيانات الأحداث» وليس إلى «الأحداث» ذاتها، فبيانات الأحداث هي المعلومات المتوفرة عن حدث ما، وعادة ما تكون مصادرها متنوعة، فإذا كان الحدث مرتبطًا بتفاعلات صراعية -كما هو الحال في الحدث المرتبط بالهجوم على الكرملين- من الطبيعي أن تتباين الروايات بشأنه وفقاً للمصدر الذي يتحدث عنه، كما رأينا في الروايات المتناقضة السابقة، ولذا فإن المحلل الذي لا يملك عادةً القدرةَ على الوصول إلى الحقيقة، وبالذات في القضايا الحساسة كتلك المرتبطة بالأمن القومي والصراعات المسلحة، لا يجد أمامه سوى أن يحاول تحليل الدلالات في كل الأحوال، أي بافتراض الصدق والكذب معاً في كل المصادر ومحاولة استخلاص الدلالات من جميع الاحتمالات.
وإذا طبقنا الفكرةَ السابقة على التصريحات المرتبطة بالهجوم على الكرملين من الطرفين الروسي والأوكراني، سوف نجد أن الدلالة الأكيدة لهذه التصريحات هي استمرار التصعيد في الحرب الأوكرانية ووصوله إلى مستويات أخطر، فالمعنى الأكيد لصدق التصريحات الروسية أن أوكرانيا ماضية في طريق التصعيد لدرجة أنها تحاول اغتيال الرئيس الروسي، وكذلك فالمعنى الأكيد لصدق النفي الأوكراني أن روسيا تبحث عن مبرر لتصعيد خطير جديد في العمليات العسكرية ضد أوكرانيا، وذلك لأن الهجوم على رأس الدولة لا يمكن أن يمر بسلام، بدليل تصريحات ديمتري ميدفيديف، الرئيس الروسي السابق والنائب الحالي لرئيس مجلس الأمن الروسي، والتي طالب فيها بالتخلص من الرئيس الأوكراني، وبالتالي فإن أحد الطرفين على الأقل ينوي مزيداً من التصعيد. والمشكلة أن الصراع حول أوكرانيا، منذ تفجره عسكرياً، شهد بالفعل أعمالَ تصعيد خطرة انطوت عليها العملية العسكرية الروسية وما ارتبط بها من هجمات على محطات الطاقة على سبيل المثال، وفي المقابل تمكنت أوكرانيا من الصمود بعد احتلال معظم شرق أوكرانيا والقيام بهجمات مضادة أسفرت عن انسحاب روسي جزئي من خيرسون وأعمال أخرى كتفجير جسر القرم وعمليات مشابهة، وهو ما يعني أن التصعيد القادم سوف يكون أخطر بكثير.. فهل بقي لصوت العقل مكان؟

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة