التوازن والحكمة عاملان أساسيان في بناء التصورات والتحليلات وصياغة الرؤى والتعامل مع المشكلات الحاضرة والتنبؤ بالمستقبل وبنائه، وهما لا يتأتيان إلا بالعلم والمعرفة وبالوعي والدربة والتجربة التي تؤدي إلى الخبرة.

يعيش العالم منذ سنواتٍ في زمن «التفاهة الممنهجة»، وهي تحويل كل شيء إلى مستوى معين من التفاهة، يقل أو يكثر، في السياسة كما في الثقافة وفي الإعلام كما في الاجتماع، ومن مقتضيات التفاهة السرعة والحسم والشهرة، فكل قضية أو إشكالية، وكل حدثٍ مهما كان معقداً ومتشابكاً، وكل فكرةٍ عميقة ومتشعبة لا تحتاج لأكثر من هذه العوامل الثلاثة لتتخذ منها التفاهة موقفاً سريعاً وحاسماً يحقق شهرةً وانتشاراً.

العلم والمعرفة ومعها الفكر والفلسفة تدفع باتجاه الهدوء والتعقّل وتعزز قيمة البحث والتنقيب والتدقيق والتمحيص، وهو ما يحتاج وقتاً وجلداً وصبراً، وذلك ما ينافي السرعة والاستعجال والتسرّع، كما أن هذا كله يؤدي إلى التفكير النسبي الذي هو لصيق للتفكير العلمي، ويدعم طرح التساؤلات وبناء المقارنات وتعديد الخيارات، وهذا كله يدفع للتوازن ويورث الحكمة وهما ألد أعداء «التفاهة الممنهجة» وخصومها.

فقدان التوازن والحكمة من أكثر ما يفضح «التفاهة الممنهجة» منهجياً وعلمياً، لأنها بسبب السرعة والحسم والشهرة تضطر لتبني التناقضات في فترةٍ وجيزةٍ جداً، وتستطيع جمع الأضداد بنفس الحماسة والانتشار، ومن أوضح الأمثلة على هذا تلك الحملات «السوشلية» المنظمة التي تقف وراءها جهاتٌ معينةٌ ومعروفةٌ، سواء كانت من دولٍ أو أحزابٍ أو جماعاتٍ وتياراتٍ لها غاياتٌ تريد الانتهاء منها لغايات سياسيةٍ أو حزبيةٍ آنيةٍ، وهي لذلك تحتاج كثيراً لجمع «التافهين» وتمجيدهم ودعمهم وإعطائهم مكانةً ليست لهم، وبالتالي تتفشى «التفاهة» في المجتمعات باعتبارها سبيلاً سريعاً للشهرة والانتشار وربما للنجاح والتميّز، بحسب هذه المعايير.

التطوّر جزء من طبيعة البشر إذا تعلموا وازدادوا تجربةً ووعياً، وهو دافعٌ مهمٌ للتغيير، فالثبات جمودٌ والثابت جمادٌ لا إنسان، وهذا معلومٌ من حياة الإنسان بالضرورة من طفولته إلى شبابه فمشيبه.

ومعلومٌ في مؤسسات التعليم وفي الوظائف وفي كافة مناحي الحياة، ولكنه شيء يختلف تماماً مع التغيير السريع والحاسم وغير المبرر، الذي ينم عن الاستعجال المفرط والتقلب المضطرب وهو النقيض التام للتوازن والحكمة والتعقل والوعي. التغييرات السياسية في المنطقة والعالم لا تهدأ أبداً، وهي تجري بوتيرة أعلى من المعتاد في السنوات الأخيرة، وترافقها تغييرات ثقافية واجتماعية واقتصادية متعددة الجوانب، وأتباع «التفاهة الممنهجة» لا يجدون غضاضة في التقلب بين تلك التغييرات دون قراءة متأنية وتحليل عميقٍ ووعي بالاستراتيجيات والتكتيكات، والأمثلة توضح السياق.

في الموقف من بعض الدول الإقليمية المعادية للدول العربية، يمكن الفصل بسهولة بين ضرورات السياسية وطموحات التغيير للأفضل وما يرافق ذلك من مفاوضات واشتراطات وترقب وتجريب. وعلى المستوى الدولي واضح أن دول الخليج العربي بدأت منذ سنواتٍ تتخذ مواقف أكثر توازناً تجاه أميركا والدول الغربية وتجاه روسيا والصين والدول المؤثرة في العالم، وهذا طبيعيٌ في السياسة، ولكن بعض أتباع «التفاهة الممنهجة» يبدأون في شتم أميركا والغرب ويحولونهم لأعداء وأشرار ويحشدون ما استطاعوا لتبرير هذا الموقف الجديد، دون أي اعتبارٍ لقيمة هذه الدول وطبيعة التحالف الطويل معها، ووضع الخلافات التي قد تشتد في بعض الملفات في موضعها الطبيعي. أخيراً، فالتوازن والحكمة يعصمان الإنسان من التقلبات السريعة والحماسة في الحسم، ويمنحانه قدرةً على الإدراك والتعقل.

*كاتب سعودي