في خضم تغيرات الإقليم التي تأتي في سياق تغير جذري في منظومة العلاقات الدولية بالمجمل، هناك خطر كامن ومتربص ينتظر الفرصة للظهور والتغلغل ثم التوغل، وهو فكر «الشعبوية» الذي يمتطيه كثير من التيارات «والأفراد» ويتم توظيف أدواته لمحاولة كسب الرأي العام أو تعريضه للاهتزاز.
الشعبوية ليست في العالم العربي وحده، بل حالة تنتشر عالمياً وازدادت مؤخراً عبر سياسيين يصنع البعضُ منهم تياراتٍ منظمةً لها هدفها، ألا وهو مخاطبة غرائز الناس، ونافذتهم إلى ذلك دوماً هي أي فراغ في المعلومات أو مساحة معدومة من الشفافية.
الشعبوية تَوجُّهٌ قديمٌ منذ عصور أثينا السياسية، حيث برز وقتَها الأكثرُ قدرةً على الخطابة والبلاغة الإنشائية التي تحرِّض الناسَ، من دون حضور محتوى حقيقي أو برنامج حلول بديلة، واليوم صارت تلك الشعبوية عنواناً يمتطيه «اليمين المتطرف» للوصول إلى السلطة وبأي ثمن حتى لو كان الثمن هو الحقائق نفسها.
ولأن الحقيقة غائبة، بل يجب أن تكون غائبة في «الشعبوية»، فإن بناءَها المتصاعد مبني على حجر أساس «التضليل»، وهو ما يعني إحالةَ الوعي الجمعي إلى كل ما هو خرافي وترحيل الحلول إلى عالم غير منظور قائم على الأسطورة.
ومن هنا فإن التيارات الدينية التي تريد السيطرةَ بالمجمل، هي الأكثر توظيفاً للشعبوية عبر أدوات التضليل التي تتقنها، ولديها من لاعبي الأكروبات السياسية وفرة من الأشخاص الذين يصبحون فجأة «أبطالاً» يجترحون المعجزات «الوهمية» في عيون الناس، وشرط تحقيق ذلك دوماً هو غياب الوعي وتغييبه.
ومع تلك التيارات التي توظف الدين، هناك تيارات «القومية والوطنية الشوفينية» التي تخاطب غرائزَ العصبية الضيقة، وهي غريزة موجودة وقابلة للنمو في ظروف القهر والفقر والشعور بوجود أخطار وجودية تهدد الناس.
عالمنا العربي كان تاريخه السياسي الحديث، وفي الأغلب، ضحيةً لتلك الشعبوية التي كانت ركناً أساسياً في صناعة الأزمات والخيبات معاً، وفي ترسيخ الهزائم كحالة تاريخية متكررة، وذلك ببساطة لأن الوعي الجمعي غائب، مما يعني انفصالاً عن المعرفة والعلم، وانقطاعاً عن العالَم الذي يتطور.
واليوم فإن إقليم الشرق الأوسط يعيش تغيراتٍ غنية بالوعي تحاول تصفير الأزمات وإيجاد منظومة نوعية جديدة من العلاقات البينية والإقليمية والدولية، قائمة على التعاون التنموي والتكامل الاقتصادي المبني على ثقافة المعرفة، وهي خطوة ذاتية تقودها نخب وقيادات من جيل جديد يؤمن بالمعرفة والعلوم والإنسانية التي تجمع الجميع.
هذا التغيير المدروس والمتسارع يشكل خطراً على الشعبويين، بكل تياراتهم المختلفة والمتناقضة، مما يعني أن ما سيوحدهم ربما في تحالف واحد هو شعورهم بالعداء للمنظومة التكاملية الإقليمية الجديدة.
نعم، العبور نحو القادم لن يكون سهلاً، فهناك كتل مصالح مهددة وجودياً جراء هذا العبور نحو المستقبل، وهذه الكتل لن توفر جهداً من أجل تقويض كل ما يمكن بناؤه إقليمياً، سعياً منها للإبقاء على الأزمات.. فالأزمات هي التي تغذي تلك التيارات وتجعلها قابلةً للحياة والاستمرار، والحروب هواؤها الذي تتنفسه!

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا