هنري كيسنجر أحد رموز السياسة والديبلوماسية والفكر في النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القرن الجديد احتفل قبل أيامٍ بعيد ميلاده المئة، وكما اكتنز الكثير من المعارف وصنع العديد من التجارب إلا أنه خلاف كثيرين من مجايليه بقي ليروي بعقل قوي ووعي متماسك.

كيسنجر أكاديمي وباحث ومفكر قبل أن يكون رجل دولة، وهو وظّف كل مواهبه وجهوده لخدمة دولته وتمكينها وتعزيز مكانتها وقوتها وتأمين مستقبلها في ظل صراعاتٍ دوليةٍ طاحنةٍ وتاريخية، وهو بهذا لم يدع حياداً ولا مثاليةً كان يرفضها كمبدأ سياسيٍ ويفضل عليها الواقعية وإن بدت قاسية، وهو بهذا مخلصٌ لدولته ومبدعٌ في خدمتها ويستحق القراءة والدرس لكل راغبٍ في التطوير والتأثير.

كارهو كيسنجر هم خصومه السياسيون والفكريون، وحق لهم ذلك حين انتصر عليهم وتفوقت رؤاه وحلوله والاستراتيجيات التي بناها والأفكار التي روّج لها والسياسات التي دعمها للرئيس الأميركي نيكسون وبعده الرئيس فورد، وخصومه المثاليون من يساريين وغيرهم إنما حقدوا عليه لنجاحاته المتكررة في هزيمتهم، ولذلك فكثير من النقد الموجه له -وبعضه محق- إنما ينطلق من مثاليات وأخلاقياتٍ لا علاقة لها بعالم السياسة المتوحش وفي لحظة صدام دوليٍ واسعة وشرسة وخطيرة في مرحلة «الحرب الباردة».

حين تقرأ لكيسنجر تلفتك مباشرة الخلفية الثقافية والفلسفية والتاريخية التي يستند عليها، فهو مثقف حقيقيٌ وأكاديمي تخرج من أرقى الجامعات، وكان أحد الرموز الذين قذفتهم بهم جامعة هارفارد للشأن العام الأميركي والدولي، وهذه الخلفية الثقافية رافقها عقلٌ ذكيٌ ناقدٌ ومحللٌ يستطيع قارئ كتبه أن يلمسه بسهولة في نظرته للأحداث وتوصيفه للصراعات ورسمه للمخارج منها في سياساتٍ واستراتيجيات متكاملة كان يصوغها في لحظات سخونة الأحداث وتشابكها وتعقيدها ولا يدعي الحكمة بعد انقضائها كما هو شأن كثيرين حول العالم.

التاريخ مليء بالعظماء والمؤثرين، من الأباطرة والزعماء ومن المفكرين والمثقفين ومن الأغنياء والاقتصاديين، ولكن قلةً منهم من اشتغلت بالكتابة ورواية التاريخ، وهذه القلة هي التي تبقى بعد مرور الزمان وانقضاء الأحداث وتعاقب الأجيال لأنهم هم الذي يعتصرون الحكمة ويكثفون رمزية التاريخ ويوثقونها لتبقى، ومن الطبيعي أنهم يروونها من وجهة نظرهم لا من وجهة نظر خصومهم، هذه مسلمة.

كيسنجر عاش طويلاً وكتب كثيراً، فقد تهيأت له الظروف للمشاركة في صنع كثير من أحداث التاريخ التي عاصرها مستشاراً للأمن القومي الأميركي أو وزيراً للخارجية، ثم تهيأت له الظروف ليصبح أحد أهم رواة تلك الأحداث ومعتصري الحكمة منها ومانحي المعنى لها، وهذا أمرٌ لا يجتمع لكثير من البشر مهما بلغت أدوارهم ومواهبهم.

خصوم كيسنجر العقلاء يفضلونه على غيره من الجهلة، فعدو السوء العاقل خير من الصديق الجاهل، ومع اشتداد الصراع الكبير بين الصين وأميركا إلا أن الصين حرصت أن ترسل سفيرها في أميركا لتهنئة كيسنجر بعيد ميلاده المئة وهو الذي قاد اختراقاً سياسياً مهماً وخطيراً في السبعينيات ببناء علاقاتٍ ديبلوماسية مع الصين وقتها.

أميركا العظيمة التي أخرجت كيسنجر وبريجينسكي وغيرهما من أذكياء السياسة الأميركية وصناعها من ذوي التفكير الاستراتيجي لم تعد تنتج شخصياتٍ بنفس القدرة والمكانة وطبيعة التفكير، والأيديولوجيات التي احتدمت داخل أميركاً يميناً ويساراً أصبحت تخرج الأقرب للتشدد منه للحكمة والعقل، ومشكلة تدني المعايير في اختيار العقول الفذة مشكلة لا تقتصر على أميركا. أخيراً، فكيسنجر العجوز لا يوافق اليوم على كسر روسيا في أوكرانيا ولا إهانتها بينما يدعو أمثاله المعاصرون للقضاء المبرم عليها ولو على حساب النظام الدولي، وهو يرى الحوار مع الصين هو الأفضل لأميركا والعالم بخلاف غيره ممن بيدهم القرار أو التفكير.

*كاتب سعودي