يشكل بابا الفاتيكان فرنسيس ظاهرة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية. فقد قام بعدة مبادرات لم يسبقه إليها أحد من الباباوات السابقين الذين يبلغ عددهم 266 بابا.

وكان القديس بطرس أولهم في القرن الميلادي الأول. سجّل مع الإسلام ثلاث سوابق تاريخية: فكان أول بابا يزور الأزهر الشريف في القاهرة. وأول بابا يزور النجف الأشرف في العراق بما يمثّله من رمزية مرجعية إسلامية شيعية.

وكان ثانياً أول بابا يبرم وثيقة تفاهم وتعاون إسلامي – مسيحي للعمل المشترك على معالجة قضايا إنسانية عامة (وثيقة أبوظبي). ثم إنه كان أول بابا يبدي تعاطفاً عملياً مع مسلمي الروهنغا الذين طُردوا من ديارهم في ميانمار ولجأوا إلى بنغلادش. وسجل مع المسيحية ثلاث سوابق تاريخية أيضاً. فكان أول بابا (كاثوليكي) يجتمع إلى بطريرك موسكو الأرثوذكسي. حدث ذلك في هافانا – كوبا. ثم كان أول بابا يستقبل في الفاتيكان بطريرك إسطنبول بارثالوميو الذي يُعتبر أولاً بين بطاركة الأرثوذكس في العالم، لما تمثله إسطنبول من رمزية معنوية للكنيسة الأرثوذكسية التي كانت هذه المدينة عاصمة لإمبراطوريتها البيزنطية والتي انشقت عن الكاثوليكية.

وكان البابا فرنسيس كذلك أول بابا يزور الدول الإسكندينافية التي تتّبع المذهب الإنجيلي، ويصلّي في كنائسها، ويفتح صفحات تعاون وتلاقٍ معها تقوم على مبدأ الاعتراف بمسيحيتها. وكانت هذه الكنائس قد انشقت في القرن السادس عشر عن الكنيسة الكاثوليكية الأمّ واعتنقت المذهب الإنجيلي. ومع الصين اتخذ مبادرة أحجم عنها من سبقه من الباباوات لمعالجة قضية تتعلق بصميم دور الكنيسة الكاثوليكية. فبعد عقود طويلة من المقاطعة وسوء العلاقات، بادر إلى تحقيق تسوية أعطت الدولة الصينية دوراً في اختيار وتعيين البطاركة المحليين. وهو أمر كان يُعتبر من حقوق الفاتيكان حصراً. وقد آثر البابا فرنسيس إنهاء القطيعة مع الصين التي دامت عقوداً طويلة أدّت إلى تراجع دور الكنيسة وانحسار نشاطاتها نتيجة سوء علاقاتها مع الدولة. وتتمتع اليوم العلاقات بين الصين والفاتيكان بكثير من الودّ والاحترام المتبادلين. ورغم كثرة زياراته «الراعوية» للعديد من الدول في الشرق والغرب، تشكل زيارته الأخيرة إلى مرسيليا في فرنسا سابقة جديدة تُضاف إلى سجلّه الاستثنائي. فهي الزيارة الرسمية الأولى التي يقوم بها بابا الفاتيكان إلى فرنسا منذ أن رفض نابليون أن يتولى البابا تتويجه، كما كان سائداً في أوروبا يومها. قرّر نابليون يومها تتويج نفسه. وقبل ذلك ذهب نابليون إلى اعتقال البابا بيوس السادس واحتلال روما والفاتيكان. لم تكن علاقات الفاتيكان بفرنسا سيئة دائماً. ولعل الأصح القول إنها لم تكن سيئة دائماً. فقد تعرّضت الحركة المسيحية الجزويتية إلى الاضطهاد في فرنسا فترات طويلة. الآن تستقبل فرنسا، ممثلة برئيسها نفسه، بابا ينتمي إلى هذه الحركة الجزويتية. وهو أول بابا في التاريخ ينتمي إلى هذه الحركة الدينية المسيحية الكبيرة التي نقلت المسيحية الكاثوليكية إلى شرق آسيا، بما في ذلك اليابان والصين. ورغم تفاخر فرنسا بأنها تفصل الدين عن الدولة، فإن الاستقبال الرسمي الذي جرى للبابا في مرسيليا رسم العديد من علامات الاستفهام حول: كيف وأين، بل وحتى جدوى هذا الفصل. فالخلاف - بل الصراع - بين باباوات روما وملوك فرنسا في العصور الوسطى استمر فترات طويلة واتخذ حتى أشكالاً حربية. حتى اضطر أحد الباباوات إلى مغادرة مقرّه الرسمي في الفاتيكان (روما) والالتجاء إلى مدينة أفينيون (التي أصبحت الآن في فرنسا).

سجّل كثير من الباباوات سوابق في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، إلا أنها كانت إنجازات محصورة في الإطار الكنسي أو في الإطار المسيحي الخاص. من ذلك مثلاً أن البابا غريغوريوس السادس عشر الذي عاش في القرن التاسع عشر حرّم بناء خطوط السكك الحديدية ووصف الطرقات السريعة بأنها تؤدي إلى جهنم. وعارض حتى إنارة الشوارع.

ولكن خطوط السكك الحديدية تمتد اليوم إلى داخل الفاتيكان، وهي مرتبطة بشبكة مواصلات القطار الإيطالي. كما أن الشوارع الداخلية والحدائق العامة داخل الفاتيكان تزداد روعة وجمالاً مع إضاءتها في الليل!! أما البابا فرنسيس، فإن إنجازاته تجاوزت الكنيسة ودور الفاتيكان لتشمل العلاقات بين الأديان والثقافات الأخرى على القاعدة التي رددها هو نفسه:«من أنا حتى أحكم على ما في قلب الإنسان؟».

ومن بين إنجازاته العديدة أكد البابا فرنسيس على القاعدة العامة التي تقول إن الدين هو لخدمة الإنسان وليس العكس. وتترجم وثيقة الأخوة الإنسانية التي صدرت يوم 4 فبراير 2019 في أبوظبي بتوقيعه وإمام الأزهر الشريف هذا الالتزام الديني والأخلاقي على أبعد مدى.      

                                  *كاتب لبناني