في كتابه الشهير «الأمير»، يقدّم الفيلسوف الإيطالي نيكولا ميكيافيلي نصيحة إلى الأمير الحاكم. وفي هذه النصيحة يصف الثروة بالنهر الجارف الذي عندما يفيض بتسبّب في وقوع خراب ودمار. ولذا يقول ميكيافيلي إن على الأمير الحاكم أن يحصّن نفسَه عندما يكون النهر هادئاً، فيبني حولَه الجسورَ والأقنيةَ، حتى إذا فاض النهر تتوزّع مياهه وتتدفّق بأمن وسلام. لكن إذا لم يبنِ دفاعات تقف في وجه فيضان النهر وتحوّل مياهه الهادرة إلى الأقنية الجانبية، فإنه قد يواجه قوة غاضبة ومتمرّدة، وهذا تقريباً مع حدث مع الزعيم الليبي السابق العقيد معمر القذافي نموذجاً، وكذلك مع الرئيس الروماني السابق تشاوشيسكو كنموذجاً آخر.
وقبل حوالي 1800 عام من ولادة ميكيافيلي، عرفتْ الهندُ مفكّراً حكيماً يُدعى «غوتيليا» الذي وضع كتاباً عنوانه «أرثاشاسترا» حول مبادئ وأسس العلوم السياسية، وذهب فيه إلى أبعد مما أورده ميكيافيلي في كتاب «الأمير»، إذ تناول مواضيع التعامل مع الجواسيس، سواء منهم الذين يعملون لحساب الحاكم الأمير أو أولئك الذين يعملون لحساب خصومه. وتناول في كتابه أيضاً قضايا الاغتيال السياسي، وشراء الذمم والاعتقال والاتهام الظني. ولذا فإن دراسة «ميكيافيلي الهندي» أشمل وأوسع من دراسة «ميكيافيلي الإيطالي». فقد كان أبعد رؤيا وأكثر إحاطة. مع ذلك ما يزال كتاب ميكيافيلي أحد المراجع الأساسية المعتمدة في دراسات العلوم السياسية.
ويميّز هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق (يبلغ سن المائة حالياً) بين عملية اتخاذ القرار لدى كل من المسؤول السياسي والمسؤول الإداري، ويقول إن هذا الأخير يحسب بدقة: واحد زائد واحد يساوي اثنين.. دون بحث ولا نقاش ولا جدال. أما السياسي فإن منطلقات حساباته مختلفة، والمجموع عنده قد يكون ألفاً أو صفراً، وقد يكون أي رقم بين هذا وذاك. فالرؤية السياسية إلى الأمر تختلف عن الرؤية الإدارية. الأولى غير محدودة ومطلقة ومنفتحة على آفاق ومتغيّرات واسعة.. أما الرؤية الإدارية فإنها ملتزمة بضوابط الواقع وبالالتزامات المحدّدة، ولذلك فان سياسة الإدارة شيء وإدارة السياسة شيء آخر.
يُجمع الخبراء على أن تعلّم الجديد من المعارف، السياسية والإدارية، عملية صعبة. لكن تذكّر هذه العلوم والمعارف هو أشد صعوبة. ولذا فإن أي نظام تعليمي يفترض أن يقوم على أساس مراعاة التوازن بين الثابت والمتجدد. ثابت بما فيه الكفاية للتذكّر، ومتحرّك بما فيه الكفاية لتقبّل المزيد من المعارف والعلوم من دون تعطيل عمل الذاكرة أو حتى التشويش عليها وعلى مدى حياة الإنسان.
إن التعلّم هو نتيجة التغيير الذي يحدث في الدماغ من خلال ما يحدثه دخول المادة العلمية الجديدة إلى شبكة الاتصالات في مخ الإنسان. فهناك أعصاب مخصصة للقيام بعملية النقل يقدّر العلماء عددها بحوالي 600 ألف مليون وحدة. ويطلق العلماء على هذه الملايين من الأعصاب اسم «الأعصاب الصامتة». وهي التي تتحفز لالتقاط الجديد وإرساله إلى الذاكرة لحفظه. ويدرس العلماء اليوم كيفية تحفيز هذه الأعصاب لمعالجة الأمراض المتعلقة بالذاكرة، وأهمها مرض «الزهايمر». وهنا يصل الإنسان إلى مستوى يعجز فيه عن تذكّر أي شيء (لكي لا يعلم من بعد علم شيئاً)، بما في ذلك سيرته الذاتية وأقرب المقرّبين منه. وهو ما أطلق عليه القرآن الكريم صفة «أرذل العمر». وفي هذه المرحلة لا يختلف الإداري عن السياسي.. وللّه في خلقه شؤون.

*كاتب لبناني