عندما يُذكر اسم تشارلز داروين تقفز إلى الذاكرة نظريته حول النشوء والتطور، والتي ما تزال موضع جدل حتى اليوم. فهناك مدارس أميركية (في الجنوب الأميركي) تمنع تدريسَها. إلا أن ذلك لا يغيّر من حقيقة الأمر، وهو أن داروين أصبح اسماً علَماً تحمله مدينة في أستراليا، كما تحمله قمة في سلسلة جبال الأنديز في أميركا الجنوبية.
غير أن هذه الشهرة العلمية والعالمية تتجاهل أمراً آخر يرتبط بداروين ولا يحمل اسمه. بل ولا يعرف أن لداروين علاقة به من قريب أو بعيد، علماً بأنه هو أول من صنعه. والمقصود هنا هو الكرسي النقّال والمتحرك على دواليب (عجلات) صغيرة.
في عام 1840 كان داروين يقيم في الريف البريطاني. كان يعدّ أبحاثه في علم الأجناس. وكان قد حمل معه من أستراليا ومن أميركا الجنوبية نماذجَ حيوانية ومتحجرات كثيرة، مختلفة ومتعددة الأحجام والأوزان والأشكال، فنثرها في غرف بيته الخاص لدراستها ولإجراء المقارنات حولها. لذا كان يضطر إلى مغادرة مكتبه والسير خطوات نحو هذا النموذج أو ذاك، ومن ثم العودة إلى المكتب لتسجيل ملاحظاته. كان ذلك العمل البحثي يستغرق وقتاً أطول وجهداً أكثر.
ولتوفير المعاناة على نفسه، اخترع داروين عجلات الكرسي للانتقال من نموذج إلى آخر، ومن غرفة إلى أخرى بجهد وبوقت أقل. وهذا الكرسي المتحرك أصبح اليوم من ضرورات العمل المكتبي في الدوائر والمؤسسات والشركات مختلفة الاختصاصات، حيث يستخدمه مئات ملايين الإداريين في مختلف الإدارات والشركات في العالم. وحتى في المركبات الفضائية المأهولة، صُنعت كراسي بعجلات لتسهيل حركة رواد الفضاء العاملين فيها، وأول سفينة فضائية استخدمتها كانت «أنديفر».
ورغم أن الكرسي المتحرك بدأ ينتشر في السبعينيات من القرن الماضي، فإنه لم يُعتمد على نطاق دولي واسع إلا في الثمانينيات. في ذلك الوقت أقرّت المنظمة الأوروبية الرسمية المعنية بشؤون السلامة في العمل، استخدام الكرسي المتحرك. وبذلك كرّست اعتماد الاكتشاف الدارويني الذي يقع خارج منظومة النشوء والتطور! ولما أطلّ عصر الكومبيوتر أصبح الكرسي المتحرك جزءاً من هذا العصر، وكأنه صُنع من أجل تسهيل استخدامه مكتبياً.
تفنّن المهندسون فيما بعد في وضع تصاميم جديدة وجريئة للكرسي المتحرك. إلا أن ذلك لا يغيّر من حقيقة الأمر شيئاً، وهي أن تشارلز داروين هو أول مَن فكّر بكرسي العجلات وأول مَن صنعه، وأول من استخدمه لتسهيل عمله البحثي في تفحّص النماذج الحيوانية والمتحجرات التي جاء بها إلى لندن ليبني عليها نظريته في النشوء والتطور.
في عام 1911 طلع عالِم الاجتماع البريطاني فريدريك ونستون تايلور بنظرية استحداث نماذج من الكراسي تتلاءم مع الوضع الاجتماعي لصاحبها. ولأن أصحاب الكراسي كانوا من رجال السلطة، فلم تصنع للكراسي دواليب متحركة. بل تميّزت بأقدام ثابتة وبمسندات للأيدي تعلوها رؤوس حيوانات (أسُودٌ في الغالب) توحي بالتحفز وتثير الرهبة. إلا أن الكرسي المتحرك حافظ على بساطته حتى يكون أداة صالحة لمهمة أخرى.
هكذا نشأ الكرسي المتحرك، وهكذا تطوّر حتى أصبح اليوم حاضراً في معظم المكاتب الإدارية في العالم كله. فإذا كانت نظرية النشوء والتطور ما تزال موضع أخذ وردّ، وإذا كانت ما تزال موضع جدل بين العلماء والفلاسفة، فإن الكرسي المتحرك تجاوز النظرية إلى الواقعية رغم أنه لم يكن هدفاً في حدّ ذاته، بل مجرد وسيلة لتسهيل دراسة هدف، ما تزال ترتفع حوله علامات استفهام كبيرة.
 
*كاتب لبناني