تشكل السياسات الضريبية عاملاً حاسماً في تحديد الأوضاع الاقتصادية ومعدلات النمو الاقتصادي، مما يتطلب التعامل معها بحكمة ومرونة كبيرة لتجنب عواقبها السلبية والتي يمكن أن تضر بالاقتصاد المحلي وبالنمو. ونتيجة لتأزم الأوضاع الاقتصادية في كثير من دول العالم، بما فيها المتطورة، بسبب العديد من العوامل الناجمة عن الجائحة السابقة أو الحروب والصراعات التي جذبت بعض الدول البعيدة عن مناطق الصراع بحكم المصالح، حيث ازدادت التزامات الدول لتمويل العجوزات في موازناتها السنوية بعد ارتفاع التزاماتها المحلية والخارجية.
وبما أن موارد بعض الدول محدودة، علماً بأنها تعاني في الأساس من أوضاع اقتصادية متدهورة ويتجاوز حجم قروضها السيادية 200% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو وضع ينذر بانهيار اقتصادي، فإن تلك الدول تعتقد، بأن الحل الأمثل يكمن في فرض المزيد من الضرائب على السكان الذين يعانون أوضاعاً معيشية متدهورة.
آخر صرعات الضرائب جاءت هذه المرة من الأرجنتين الغارقة في أزمة اقتصادية خانقة منذ فترة طويلة، حيث فرضت حكومة الرئيس الليبرالي المنتخب حديثاً على منظمي التظاهرات دفع ضرائب لتغطية تكاليف نشر قوات أمنية، تلك التظاهرات التي خرجت للاحتجاج ضد إجراءات التقشف التي اتخذها الرئيس الجديد، علماً بأن هذه التكاليف لا تتجاوز مبلغاً زهيداً قدر بنحو 73 ألف دولار، إذ سترسل فاتورة المبلغ إلى الحركات الاجتماعية التي نظمت التظاهرات، وفق الناطق الرسمي باسم الحكومة، علماً بأن معدل التضخم بلغ العام الماضي مستوى عالياً وصل 160%، كما يعيش 40% من السكان تحت خط الفقر.
وفي وقت لاحق أعلنت الأرجنتين عدم انضمامها لمجموعة «بريكس» الذي كان متوقعاً في الأول من يناير الجاري بعد موافقة قمة المجموعة التي عقدت مؤخراً بجنوب أفريقيا على انضمام ست دول من بينها الأجنتين، إضافة إلى كل من الإمارات والسعودية ومصر وإيران وإثيوبيا، مما قد يعمق الأزمة الاقتصادية في دولة تعتمد على القروض، حيث كان بإمكانها الاستفادة من بنك «بريكس» ومن التسهيلات التمويلية التي توفرها بعض دول المجموعة، كالصين وروسيا والهند، وكذلك السعودية والإمارات في المستقبل القريب.
ويتزامن ذلك مع اعتماد برنامج اقتصادي جديد تشكل الخصخصة عمودَه الأساسي، مما يعني أن الأموال العائدة من عمليات الخصخصة إذا لم يتم استثمارها بصورة صحيحة، فإن الخزينة سوف تفقد عائدات كبيرة من دون أن تعوضها ضرائب التظاهرات!
والحقيقة أن مشكلة الأرجنتين المستمرة منذ عقدين لا تكمن في هذا الجانب، وإنما هناك خلل هيكلي يعانيه الاقتصاد يكمن في الإنتاجية المنخفضة وتدني معدلات النمو، مقابل تدهور مستمر للعملة الوطنية «البيزو» وقطاع حكومي متضخم ويعاني بطالة مقنعة، إضافة إلى اقتصاد مواز كبير جداً يحرم خزينة الدولة من عوائد ضخمة.
وهنا تكمن المشكلة الحقيقية، وهو ما ينطبق على العديد من الدول التي تعاني أزماتٍ اقتصاديةً لكنها تعالج القشور من دون النظر إلى المشكلة الحقيقية الخاصة بإدارة التنمية، خصوصاً وأن بعضها، مثل الأرجنتين، كانت دولاً غنية وتتمتع بمستويات معيشية عالية بفضل مواردها وحسن إدارة سياساتها الاقتصادية في السابق.
وتحدد نوعية الإدارة الاقتصادية الكثير من المؤشرات، فهناك دول غنية، إلا أن أوضاعها الاقتصادية متردية، في حين أن هناك دولاً أخرى لا تملك موارد طبيعية وفي نفس الوقت تتمتع بواحد من أعلى معدلات النمو ومستويات المعيشة في العالم، كسنغافورة على سبيل المثال، مما يعني أن حسن الإدارة الاقتصادية واستغلال الموارد واتباع سياسات اقتصادية صحيحة ومحاربة اقتصاد الظل والفساد والمحسوبية ومعالجة الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد تشكل جميعها المنفذ العملي للخروج من الأزمات ووضع الاقتصاد مرة أخرى على طريق النمو والازدهار واتباع سياسات ضريبية مرنة بعيداً عن الضرائب العشوائية التي يمكن أن تشمل في المستقبل استنشاق الهواء! وهنا بالذات تكمن وصفة النجاح التي يمكن استشفافها من التجارب التنموية الناجحة.
 
*خبير ومستشار اقتصادي