يتطلب النمو السريع للاقتصادات الخليجية ضرورة تطوير متطلبات هذا النمو، وفي المقدمة منها تنمية الموارد والمؤهلات البشرية القادرة على إدارة المشاريع والمرافق الجديدة بكفاءة مهنية عالية تعتمد فيها على التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي، خصوصاً أن رؤى وبرامج التنمية الخليجية تتضمن تنمية مثل هذه القطاعات الحديثة.
وعلى مدى أربعة عقود تمكنت دول المجلس من إقامة مراكز لتنمية المؤهلات البشرية في بعض القطاعات، كالطيران والمصارف والشؤون المالية، إلا أن التغيرات الاقتصادية العالمية السريعة فرضت مستجدات اقتضت تجاوز هذه القطاعات إلى قطاعات أكثر تطوراً وتعقيداً، وهو ما يتطلب تغيير أسلوب إقامة وعمل مراكز التدريب الخليجية السابقة التي أقيمت بصورة متشابهة ومكررة في دول المجلس كافة، كمعاهد التدريب المصرفي على سبيل المثال.
وبما أن مراكز التدريب الحديثة أكثر تطوراً وتكلفة، ويتطلب عملها استقطاب كفاءات عالية واستثمارات كبير، فإن الأسلوب السابق سوف لن يكون متاحاً لدول المجلس كافة، علماً أن عمل هذه المراكز في الدول الأخرى لا بد وأن يكون مجدياً، وأكثر فعالية، من خلال استقطاب متدربين من الدول الأعضاء في المجلس.
من هنا نرى تحول دولة الإمارات في السنوات الأخيرة إلى مركز للتدريب والتأهيل الخليجي، وهو ما يتطلب تنميةَ هذا التوجه من خلال توحيد الجهود الخليجية في هذا المجال، بحيث تكون هناك مراكز تدريب وتأهيل خليجية مشتركة تقام في جميع دول المجلس، كلٌ وفق تجربته التاريخية وقدراته البشرية والفنية، ما سيوفر الكثير من الجهود، ويخفض التكاليف، ويرفع من فعالية هذه المراكز، حيث اتخذت السعودية مؤخراً خطوة مهمة في هذا الاتجاه.
وبحكم توجهاتها للتحول إلى أحد المراكز المهمة لصناعة التعدين، بعد الاكتشافات الكبيرة للعديد من المعادن الثمنية وتخصيص استثمارات هائلة تقدر بنحو 32 مليار دولار، فقد دشنت برنامجها التدريبي الأول لمواطني دول مجلس التعاون العاملين في قطاع التعدين، بحيث يشمل ذلك البرنامج موضوعات الابتكارات العلمية في مجال التعدين، بالإضافة إلى تدريبات عملية بزيارات ميدانية للمناجم والمعامل، حيث يمكن إقامة مراكز خليجية مشتركة في الدول الأخرى في العديد من المجالات، كمركز للطاقة النووية في الإمارات بفضل التجربة التي اكتسبتها بعد إقامة أولى محطات إنتاج الكهرباء «نووياً» في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك مركز آخر للذكاء الاصطناعي الذي توليه الدولة أهمية كبيرة.
وفي البحرين يمكن إقامة مركز خليجي للقطاع المصرفي المعتمد على التعاملات الإلكترونية، بفضل وجود كفاءات محلية مدربة تدريباً عالياً. أما في الكويت التي اكتسبت خبرة ثمينة في الاستثمارات الخارجية، فيمكن إقامة مركز تدريب خليجي للتأهيل في مجال الاستثمارات الذي يكتسي أهمية خاصة للاقتصادات الغنية، كالاقتصادات الخليجية، وهو أمر ينطبق على كل من قطر وعُمان اللتين اكتسبتا تجارب مهمة في مجال التدريب، كالطيران في قطر، وإقامة البنى التحتية في عمان.
لقد كانت تلك مجرد أمثلة لما قد يكون عليه مجال التدريب الخليجي والذي من دونه سيكون هناك قصور كبير في تنفيذ الرؤى وبرامج التنمية، إذ لا بد من ردم الفجوة بين النمو السريع، والتحضير له «بشرياً» من خلال الإعداد والتأهيل، فدول المجلس بحاجة لعشرات مراكز التدريب التي تتطلبها الجهود والتوجهات التنموية، ما يعني أن كل دولة سيكون لديها العديد من مراكز التدريب الخليجية المشتركة ذات الفعالية والقدرات الكبيرة التي تتفوق على المراكز الصغيرة المماثلة المقامة سابقاً في دول المجلس.
والى جانب الفعالية والتكاليف، فإن ذلك سيعزز التكامل الخليجي في مجال تبادل الخبرات والكفاءات، كما سيساهم في إيجاد سوق عمل خليجية مشتركة تتيح لأبناء دول مجلس التعاون تسخير خدماتهم وخبراتهم لخدمة هذه الدول مجتمعة، وهو أمر مهم لدعم السوق المشتركة، إذ سيساعد نظام التقاعد المتبادل المطبَّق «خليجياً» منذ الثمانينيات في تسهيل عملية انتقال وتبادل الخبرات وفق الاحتياجات التنموية لكل دولة، ما سيؤدي إلى حدوث نقلة نوعية للموارد والمؤهلات البشرية الخليجية تستجيب لبرامج ورؤى التنمية وتتماشى معها، وبالتالي تحقق مكاسب مهمة لدول المجلس مجتمعة.

*خبير ومستشار اقتصادي