لا تمضي شهورٌ إلاّ ويُعاد تذكُّر طه حسين ونهضويته، على سبيل الثناء أو الانتقاد. وإذا عرفنا أن «العميد» توفي عام 1973، وتوالى بعده جيلان ونصف جيل من أساتذة الأدب والفكر والفلسفة والتاريخ، وأن أحداً منهم لا يُذكر إلاّ لماماً، فلا بد أن هناك مشكلة فكرية أو جيلية بحيث ما تزال أفكار العميد وحدها تقريباً مجالاً للنقاش، الذي غلبت عليه في السنوات الأخيرة الموضوعية والهدوء والتقدير الرصين. وقد كتب طه حسين في الأدب العربي، قديمه وحديثه، وفي الأدب اليوناني والفرنسي، كما أبدع في الأربعينيات من القرن الماضي في الإسلاميات، فكراً وسِيَراً وتاريخاً وتأملات في روح ودعوة ذاك الدين العريق.

وكثيراً ما ناقش طه حسين في حياته الكتابية الطويلة مشكلات معاصرة في الآداب والرواية، أو في حالة العالم، أو في إمكانات عالم ما بعد الحرب الثانية، وما تستطيع الدول الوطنية الجديدة أن تسعى لإنجازه بعد طول تعثر.فهل يكون تذكر طه حسين بسبب شموليته، وإمكان أن يجد فيه المثقفون الكهول غير المرتبطين بتيارات معينة فكرية أو سياسية ما يعجب ويفيد؟ أم أنّ العودة إلى طه حسين سببها قصور وعجز الفكر العربي الجديد عن تجاوز «العميد»، رغم تغير الأزمنة والاهتمامات؟ الذي يبدو لي أنّ الأمرين واردان.

في معظم المشكلات والاهتمامات الثقافية والفكرية المعاصرة يجد القارئ الجيد عند طه حسين وجيله ما يمكن أن يثير الاهتمام، وبالتالي الذكر والإشادة مع بعض الملاحظات.

بيد أن الأمر الآخر، أي عدم الملاءمة، هو في الغالب ما يدفع لاستعادة طه حسين. فمنذ النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين، وكان طه حسين لا يزال ينشر، صعد تيار كبير في الفكر العربي الجديد هو الذي سميناه «تيار القطيعة». وأصول هذا التيار في الفكر الفرنسي لدى الذين سُمُّوا الفلاسفة الجدد، والذين رأوا أنّ العالم الجديد يقتضي بدايات جديدة تماماً، بل ويقتضي نقضاً لما كان يُعرف في أوروبا بأفكار التنوير. عند المفكرين العرب تطلب تلك القطيعة مع الموروث، كما قال أكثرهم، باعتبار أن الموروث الديني والثقافي هو الذي يحول دون الدخول في الحداثة!

ولا يصطدم ذلك بالتراث العربي والإسلامي العريق فقط، بل ويصطدم بتقاليد زمن النهضة العربية الحديثة، حيث اتخذ جيلان مناهج جديدة في قراءة الموروث، وفي العمل على إنتاج الجديد الوطني والعربي والإسلامي دونما قطائع وابتسارات. فالصيرورة إلى القطيعة مع الموروث من جانب كبار المفكرين العرب، ما أعاقت عمليات تحديث التراث وحسب، بل وضربت الإمكانات الغنية للتواصل مع القديم ومع العالم، وهو الأمر الذي سار فيه طه حسين وشيوخه وتلامذته، ووقع هو وزملاؤه في قلب تلك الدائرة من الإحياء والإصغاء للجديد النهضوي الوطني والإنساني.الأفكار والآداب مرآة للهوية الثقافية والاجتماعية والسياسية، لكنّ الإصرار على الآنية بحجة الالتزام فيه قِصرُ نَظرٍ وقع فيه الحداثيون، والإسلامويون.

ولأنّ التواصليات والتداوليات اعتُبرت تنازلات مرفوضة، فإنّ تلك الأطروحات على حداثتها والتزامها الظاهر، سُرعان ما فقدت الاهتمام، لأنّ همَّها كان الرفض والانقباض والانكماش على الحق الذي لا حقَّ غيره. وبهذا المعنى ظلَّ طه حسين حاضراً وملحوظاً، في حين توارى الآخرون الذين انصبَّ اهتمامهم على نفي نهج طه حسين وتجاوزه، وليس على صنع فكر عربي معاصر.

*أستاذ الدراسات الإسلامية -جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية