تشتد حاجةُ العالم اليوم إلى شيء من التفاؤل بشأن المستقبل، حيث تنتشر غيوم ثقيلة في أجوائه، وتهب رياح عاصفة في مختلف اتجاهاته. وقد بَعثتْ النقاشاتُ التي أُجريت في الدورة الـ 54 للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس رسائل تحملُ معها جُرعةً من هذا التفاؤل المطلوب بإلحاح. ليست كافيةً بالتأكيد هذه الجرعة، بل يحتاج العالم إلى عدة جرعات من النوع نفسه الذي حمل عنوان «إعادة بناء الثقة». فلا باعث على التفاؤل أكثر من توافر الثقة في العلاقات الدولية. الثقة هي الركن الأساسي لأحد أهم جوانب رأس المال البشري في العالم، أي مجموعة الأعراف غير المُقنَّنة التي تخلق أرضيةً مشتركةً تُبنى عليها التعاملاتُ في مختلف المجالات والتفاعلاتُ بكافة أشكالها.
لم تكن الثقةُ مفقودةً في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية كما هي اليوم. وهذا خطر حقيقي على فرص التعاون الدولي، الذي لا بديل عنه لإنقاذ البشرية من أخطار تُهدِّدها، ولفتح آفاق جديدة للتقدم والازدهار. ليس التعاون الدولي، أي بين دول العالم، فقط هو المُهدَّد. التعاون العالمي أيضاً بين الفاعلين من غير الدول وفي مقدمتهم الشركات الكبيرة العابرة للحدود والجنسيات، والمؤسسات الدولية. ولعل منتدى دافوس هو المكان الصحيح لمناقشة التعاون بنوعيه، إذ يشارك فيه ممثلون لكثير من دول العالم، ولمؤسسات دولية، ولشركات كبرى، وكذلك علماء وخبراء في مجالات متعددة.
وكان طبيعياً الانطلاق مما يمكن اعتباره نصف الكوب المليء، أي مجالات التعاون الدولي والعالمي الأقل تأثراً بالأجواء الكئيبة الناتجة من ازدياد الغيوم والرياح المعاكسة لهذا التعاون. ومن أهم هذه المجالات التجارةُ وتدفقاتُ رأس المال، رغم المخاوف من احتمال سقوط اقتصادات دول كبرى في فخ الركود، والتحديات الجديدة المُترتبة على تهديد الملاحة عبر باب المندب حيث الطريقُ الأسهلُ والأرخصُ لعبور البضائع من آسيا إلى أوروبا.
وفي نصف الكوب المليء هذا ما يحفزُ على العمل للحفاظ على ما فيه والإضافة إليه. ولا سبيل إلى ذلك من دون التفاؤل، ومن ثم إعادة بناء الثقة، بدءاً بوضع حدٍ للتوترات الجيوسياسية التي تصاعدت على نحوٍ غير مسبوق منذ عقود، وتفاقمت بعد نشوب الحرب في أوكرانيا، وبلغت ذروتها مع اندلاع الحرب في غزة.
وهذا يفسر ازدياد المساحة التي أُعطيت للأزمات والقضايا الجيوسياسية في هذه الدورة من دافوس مقارنةً بسابقاتها. ومع ذلك لم تُهمل قضايا اقتصادية واجتماعية تنطوي على أخطار قد تُهمَّشُ في مثل هذه الظروف الصعبة، وفي مقدمتها توسع فجوة الفقر، والحاجة إلى عمل أكثر فاعلية لتضييقها. فليس مُمكناً نسيان أن القضاء على الفقر المُدقع في العالم بحلول عام 2030 هو الهدف الأول في قائمة أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر التي وضعتها الأمم المتحدة في يناير 2016 تحت عنوان «تحويل عالمنا».
أعطت دورةُ دافوس الأخير جُرعةَ تفاؤل، ربما تُسهم في التحرك نحو إعادة بناء الثقة التي يحتاجُها العالَم حالياً.

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية