صدر أخيراً كتابان سرعان ما اشتهرا وكثُرت عليهما المراجعات: «القرن الأميركي» للسياسي والمفكر الأميركي جوزف ناي، وهزيمة الغرب لإيمانويل تود. كتاب «ناي» هو سيرة شخصية تختلط بالدور الأميركي الكبير في القرن العشرين، وهو المسار والموقع في العالم الذي لعب فيه جوزف ناي نفسه دوراً مؤثراً، فهو صاحب كتاب «القوة الناعمة» (1994) الذي اعتبر فيه أنّ القوة الأخلاقية (الناعمة) للولايات المتحدة في القرن العشرين، هي التي نصرتها في الحرب الباردة، وأسقطت الاتحاد السوفييتي من دون «ضربة كف» كما يقال!

وليس معنى ذلك أنّ ناي لا يعترف بالقوتين الاقتصادية والعسكرية، وقبل ذلك وبعده قوة التقدم العلمي وصنع النموذج المختلف.. فالأميركيون تدخلوا في الحربين الأولى والثانية لضرب الفاشيات، ثم أعادوا بناء أوروبا واليابان ودمقرطوهما من جديد. وهو يعترف بالأخطاء مثل التفرقة العنصرية في الداخل وحرب فيتنام، لكنها أخطاء وخطايا جرى تجاوُزُها وأحياناً بتكاليف كبيرة.

وقد ظلَّ سؤال الأخلاق في السياسة الخارجية قوياً ومطروحاً. وعند ناي في كتابه الأخير أن الظروف تغيرت براديكالية، ولذا تقدمت سياسات القوة في الولايات المتحدة وأحياناً من دون داعٍ كبير أو مقنع. لكنه في النهاية يبقى راضياً بشكلٍ عامٍ وإن خالطت رضاه شكوكٌ بسبب الانقسامات الداخلية العميقة، والتي قد لا تسمح باتخاذ سياسات حكيمة تجاه الخارج، مثلما يحدث الآن في النزاع الروسي الأوكراني أو في الخلاف مع الصين.

    وعلى عكس ذلك تماماً يأتي كتاب إيمانويل تود، فهو يركِّز- رغم طوافه الواسع- على الحرب الروسية الأوكرانية، ويتحدث عن عشرة أخطاء ارتكبها الأميركيون وحلفاؤهم الأوروبيون. فعندما تحدثوا عام 2014 عن التهدئة مع روسيا بعد قيام الأخيرة بضم شبه جزيرة القرم قالوا علناً إنه ينبغي استغلال الهدنة واتفاقية مينسك من أجل إعادة تسليح أوكرانيا. ومن البداية شكا الرئيس بوتين من أنه لا يقبل أن يتمدد الحلف الأطلسي حول روسيا بينما انضمت ثماني دول بعضها كانت أجزاء من الاتحاد السوفييتي أو حليفةً له إلى الحلف الأطلسي، ثم إنّ المقاطعتين ذواتي الأكثرية الروسية بشرق أوكرانيا تعرضتا للتضييق. «إيمانويل تود» يرى أنّ روسيا كانت محقة في مخاوفها، وقد اضطرت للحرب حفاظاً على مصالحها الاستراتيجية. وفي حين يرى تود أنّ الرئيس ترامب كان أكثر حكمةً في سياساته تجاه روسيا، يستغرب ضعف الأوروبيين وانضواءهم الكامل تحت راية الولايات المتحدة. وهو يعتبر أنّ الأميركيين وشركاءهم خسروا الحرب بالفعل، لكنّ أوروبا هي التي ستتحمل الخسائر الأكبر.

أما الولايات المتحدة فسوف تزداد معاناتها من تصدُّع هيبتها بعد الفشل المشهود في حربيها بأفغانستان والعراق. فهذه السياسات تحاول استيعاب الخصوم والمهادنة معهم حتى إذا صاروا أقوياء وأظهروا تحدياً فإنها تعود لضربهم دون أن تتمكن من إخضاعهم أو كسب مودتهم من جديد! ستضطر الولايات المتحدة لترك أوروبا وشأنها مع روسيا.. لكن ماذا ستفعل دول البلطيق وبولندا وتشيكيا، وكذلك فنلندا والسويد اللتان انضمتا للحلف الأطلسي أخيراً؟!

    إنها الرؤى المتضاربة حول المستقبل الأميركي، والتي أكثرت من الحديث عن «عالم ما بعد أميركا». صحيح أنّ إيمانويل تود يميل لوجهة النظر الروسية، لكنّ عديدين غيره، من الذين لا يؤيدون روسيا أو الصين، يُحمّلون السياسات الأميركية المتقلبة المسؤولية الأكبر عن تصدّع الموقع والهيبة. جوزف ناي، الموظف الكبير والمفكر السياسي، لا يعتبر تلك الأخطاء والخطايا مصيرية، أما الآخرون المتشائمون أو الشامتون، فيرون أنّ مصائر النظام العالمي الأميركي تهددت وتحددت. تختلف التقديرات، وتختلف الآراء في المصائر.

*أستاذ الدراسات الإسلامية -جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية