على عكس ما تبدو عليه العلاقات الفرنسية التركية اليوم، كانت هذه العلاقات في العهد العثماني على أحسن ما يكون. وقد حدث ذلك في عام 1535 أيام الملك الفرنسي فرانسوا الأول والسلطان العثماني سليمان القانوني. يومها شكّلت فرنسا وتركيا العثمانية قوةً عسكرية مشتركة وحاربتا معاً في ميلانو التي كانت تعتبرها فرنسا بوابتَها إلى إيطاليا. ولما انتهت الحرب لم تستطع القوات العثمانية العودة بحراً إلى تركيا بسبب العواصف الشتوية التي ضربت البحر المتوسط في ذلك الوقت. فوفّر لها الملك الفرنسي الإقامة في مدينة طولون حتى أنه حوّل كاتدرائيتها إلى مسجد ليتمكّن أفراد القوات العثمانية من أداء الصلاة فيه. كما طلب من بعض سكان المدينة إخلاءَ منازلهم وتقديمها لإيواء عناصر القوات العثمانية إلى أن تهدأ العاصفة ويتمكّن أفراد هذه القوات من الإبحار إلى بلادهم.
وفي عام 1515 كان الملك فرانسوا يطمح إلى أن يكون على رأس الإمبراطورية الرومانية المقدسة، غير أن الهيئة الناخبة في هابسبورغ آثرت انتخاب الملك تشارلز الخامس، فأدى ذلك إلى تفجّر الصراع بين الاثنين، فرنسوا وتشارلز، فدخلا في سلسلة من الحروب التي انهكتهما معاً.
وفي عام 1525 اتخذ الملك الفرنسي مبادرةً للتحالف مع السلطنة العثمانية بقيادة سليمان القانوني ضد غريمه الملك تشارلز، وعهد إلى أحد النبلاء الفرنسيين القيامَ بهذه المهمة الدبلوماسية التي تكلّلت فعلاً بالنجاح. وما يزال قصر هذا النبيل الفرنسي، مومتمورنسي، الذي بُني في القرن السادس عشر قائماً حتى اليوم، ويضمّ مجموعةً من الهدايا التي قدّمها يومذاك السلطان العثماني إلى الدبلوماسي الفرنسي الناجح. ومن تلك الهدايا سيف محفور عليه اسم السلطان سليمان، ومنها أيضاً مقتنيات تحمل اسمَ قائد الأسطول البحري العثماني خير الدين برباروسا الذي تولى قيادة المعارك البحرية لمصلحة فرنسا ضد قوات الملك تشارلز وتمكّن من إلحاق الهزيمة بها. ويُقال، إن برباروسا كان قرصاناً قبل أن يكتشف العثمانيون مواهبَه البحرية وقبل أن يوليه السلطان قيادةَ أسطوله في البحر المتوسط.
وبلغت العلاقات الفرنسية العثمانية أوجها في عام 1535 عندما افتتحت فرنسا سفارةً لها في إسطنبول لتكون أول دولة في العالم تحظى بشرف إقامة سفارة دائمة مع «الباب العالي». مرّت الحرب بين العاهلين الأوروبيين فرانسوا وتشارلز في مراحل عديدة. كانت الغلبة فيها في المرحلة الأولى للملك تشارلز، إذ تمكّنت قواته من أسر الملك الفرنسي في معركة بافيا وسَوقه مكبّلَ اليدين ومن ثم زجّه في السجن.
ويبدو أنه هناك، داخل السجن، اتخذ الملك الفرنسي قرار التواصل والتحالف مع السلطان العثماني سراً. وبالفعل انتصر له السلطان، وبذلك تحولت الهزيمةُ العسكرية الفرنسية إلى انتصار. فقد تمكّنت القوات الفرنسية العثمانية المشتركة من الاستيلاء على مدينة نيس في عام 1543، حيث قاتلت القوات الإسلامية العثمانية والمسيحية الفرنسية معاً قواتِ الإمبراطور تشارلز الخامس، وتمكّنت من التغلّب عليها. ومنذ ذلك الوقت أصبحت مدينة «نيس» فرنسية، وما تزال حتى اليوم. وأدى هذا الانتصار العسكري إلى دخول العلاقات الفرنسية العثمانية عصرها الذهبي، الذي تفتقر إليه اليوم.
في عام 1526 وجّه السلطان سليمان رسالة إلى الملك فرانسوا ما تزال محفوظة حتى اليوم كوثيقة تاريخية، وهي عبارة عن مخطوطة طولها خمسة أمتار ومكتوبة بحبر خاص مستخرج من أسماك بحرية معينة تُعرف بالأسماك الحبّارة أو السبيدج. وتُعتبر هذه الرسالة، سواء من حيث الشكل الفني أو من حيث المضمون السياسي، تحفةً فنيةً ومرجعاً تاريخياً لصورة العلاقات الفرنسية العثمانية ولما كانت تتمتع به من ثقة متبادلة وتعاون مشترك. ويُحتفظ بهذه الرسالة في قصر «إيكوين» التاريخي الذي شيّده الدبلوماسي الفرنسي الذي لعب دورَ المبعوث الخاص للملك فرانسوا إلى السلطان العثماني.
ومن هنا يأتي السؤال: كيف كانت العلاقات بين بارس وإسطنبول وكيف أصبحت؟ ولماذا؟
من الواضح أنه لا الرئيس رجب طيب أردوغان هو السلطان سليمان، ولا الرئيس إيمانويل ماكرون هو الملك فرانسوا.. كذلك ليست تركيا اليوم هي الإمبراطورية العثمانية، ولا فرنسا اليوم هي فرنسا الملكية. ثم إن الامبراطورية الرومانية المقدسة زالت ليحلّ محلّها الاتحاد الأوروبي. الأولى كانت تتماهى مع الدين (ولذلك أُطلق عليها لقب القداسة)، بينما فكّت دول الاتحاد ارتباطها بالدين واستبعدت أي إشارة إليه في دستورها الأوروبي الموحّد. لقد مرّت مياه غزيرة من تحت جسر العلاقات بين باريس وإسطنبول.. والمياه لا تعود أبداً أدراجها.

*كاتب لبناني