كان على الشعوب التي أُخضعت لاحتلال في مرحلة التوسع الاستعماري الأوروبي أن تؤمِّن استقلالها عقب الحصول عليه عن طريق تقليل الحاجة إلى غيرها من دون أن تنغلق على نفسها في عالمٍ يقومُ على الاعتماد المتبادل. لكن المفارقة أنه حين شرعت في ذلك، كانت الدول الاستعمارية السابقة قد أصبحت في حاجةٍ إلى حمايةٍ أميركية في مواجهة الاتحاد السوفييتي السابق وحلفائه. ولهذا انضمت إلى حلف «الناتو»، الذي أُنشئ في عام 1949، وقبلت أن تقوده الولايات المتحدة وتُحدِّد اتجاهه، غير أن هذا الوضع لم يكن مُريحاً لبعضها، وخاصةً فرنسا منذ أن رفض رئيسُها الأسبق شارل ديغول في آخر الخمسينيات وضع أسلحة نووية أميركية في القواعد العسكرية الموجودة في بلاده، وسعى لتسريع البرنامج النووي الفرنسي.
لكن حصول فرنسا على القوة النووية لم يحل دون استمرار حاجتها إلى الولايات المتحدة. لم يكن امتلاكُها، وبريطانيا، أسلحةً نوويةً كافياً لتحقيق الاستقلال الاستراتيجي. فهذا الاستقلال مُكلفٌ، ويتطلبُ إنفاقاً دفاعياً كبيراً ومتزايداً وتوسعاً مستمراً في الصناعات العسكرية. ولهذا لم يبدأ الحديث عنه جدياً إلا عندما بدا في العقد الماضي أن «الناتو» دخل في مرحلة جمودٍ أثارت شكوكاً في مستقبله، قبل أن تعطيه الحربُ في أوكرانيا قوةَ دفع كبيرة طمأنت في حينها القلقين في أوروبا.
أما وقد باتت عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ممكنةً، فقد أُعيد طرحُ قضية استقلال أوروبا الاستراتيجي. وازداد الاهتمامُ بها في الأيام الماضية بعد أن تعهد ترامب، في لقاء انتخابي بولاية ساوث كارولينا في 10 فبراير الجاري، بأن دول «الناتو» التي لن تُنفق ما يكفي على الدفاع لن تَحظى بحمايةٍ أميركيةٍ حتى وإن تعرضت لهجومٍ روسي. ويبدو أن كلامه أعاد إلى أذهان قادة أوروبيين ما فعله حين كان في البيت الأبيض عندما كلف اثنين من مُساعديه بإعداد خطة احتياطية لخروج واشنطن من «الناتو» أسوةً بمنظماتٍ دولية انسحبت منها.
ولهذا بدأ بعضُهم في الدعوة إلى تعزيز الدفاع الأوروبي المشترك وتنويع الشراكات العسكرية. ولا يعني هذا أن أوروبا تريدُ أو تستطيعُ الاستغناء عن «الناتو» الآن، بل الاستعداد للسيناريو «الأسوأ» في حالة فوز ترامب. فما تطمحُ إليه دولُ أوروبيةٌ عِدة هو إنشاء هياكل أمنية موازية للحلف، ويُمكنُ أيضاً أن تكون بديلاً عنه عند الضرورة القصوى، لأن تحقيق الاستقلال الاستراتيجي ليس سهلاً. لا تستطيعُ كلُّ الدول الأوروبية رفع إنفاقها الدفاعي إلى المستوى اللازم لبناء هذا الاستقلال. وحتى إن تمكنت، لن يكون يسيراً استبدالُ المظلة النووية الأميركية، وخاصةً في ضوء عدم استعداد فرنسا وبريطانيا في لتغطية الدول الأوروبية نووياً. ولهذا سيكون على الطامحين إلى الاستقلال الاستراتيجي أن يجدوا وسائل مبتكرةً للتحرك في هذا الاتجاه، وربما يجدون في البيان الصادر عن اجتماع وزراء خارجية فرنسا وبريطانيا وبولندا في 14 فبراير ما يبدؤون به إن اتفقوا عليه، وهو «تمكين الاتحاد الأوروبي من مواجهة التحديات الأمنية عبر تعزيز الوحدة في مجالي الأمن والدفاع».


*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية