التعليم هو أحد أبرز مؤشرات التقدم والتنافسية العالمية، وهو السبيل الوحيد للحفاظ على قوة الدفع اللازمة لتوفير الكوادر البشرية التي تسعى إلى تحقيق طموحات الشعوب وتطلعاتها المستقبلية. وإذا كان هناك ارتباط قوي بين التعليم ومؤشرات التقدم في المجالات كافة، فإن التعليم يُعدّ أيضاً أحد أسس وركائز الحفاظ على الهويات الوطنية، من خلال تعزيز الوعي الجمعي لدى الأجيال الجديدة بمكونات الهوية الحضارية للدول والشعوب.

وفي دول الخليج العربي بشكل عام، ودولة الإمارات بصورة خاصة، تحرص القيادة السياسية على أن تمضي عملية البناء والتطور والتنمية المستدامة بموازاة الحفاظ على هويتنا الوطنية والتمسك بها بكل مقوماتها وروافدها ومظاهرها، لذلك فإن الترابط بين مختلف خطط التنمية من ناحية، والهوية الوطنية من ناحية ثانية، يمثل سمة أساسية من سمات استراتيجيات التنمية في دولة الإمارات، فقد خصصت الدولة من قبل عاماً للهوية الوطنية (2008) إدراكاً لأهميتها بصفتها ركيزة من ركائز التنمية، وتأكيد أهمية مشاركة الجميع، على المستويات المؤسسية والفردية، في تحقيق هدف تعزيز الهوية الوطنية، الذي يعد هدفاً تشاركيّاً يتطلب إسهاماً فعليّاً متواصلاً من جميع القطاعات، وفي مقدمتها التعليم الذي يبدأ بترسيخ وعي الأجيال الجديدة بالثوابت الوطنية، وهو تحدٍّ متواصل يزداد صعوبة في ظل التطور المتسارع والهائل للتكنولوجيا الرقمية التي أصبحت أحد أهم روافد التعليم والتعلم في القرن الحادي والعشرين.

ولاشك أن تحدي الحفاظ على الهوية الوطنية بات أكثر صعوبة في ظل التطور التقني، والتعددية الثقافية التي تتسم بها المجتمعات الخليجية أيضاً، ولاسيما المجتمع الإماراتي القائم على التسامح والتعايش والانفتاح الثقافي والمعرفي، في ظل وجود أكثر من مئتي جنسية، ما يضاعف مسؤولية الجهات المعنية بالحفاظ على الهوية الوطنية، لبذل المزيد من الجهد من أجل ضمان ترسيخ أسس الهوية وتناقلها بين الأجيال، ومواكبة التطور المتسارع، ولاسيما على صعيد وسائل التواصل الاجتماعي، ومختلف تطبيقات الإعلام الرقمي ومظاهره، التي تحولت إلى رافد لا يمكن تجاهل تأثيراته عند مناقشة موضوعات حيوية مثل الهوية الوطنية وارتباطها بهذا التطور وحدود تأثيره فيها، وكيفية التعامل مع هذا التحدي المتجدد من أجل ضمان الحفاظ على مكونات الهوية الوطنية في عالم يتسم بالتغير التقني المتسارع كمّاً ونوعاً.

ويحتاج التعليم إلى أولويات وأهداف وطنية متجددة، تبدأ من تركيز المناهج الدراسية على قيم الهوية، بالاعتماد على أساليب معاصرة جاذبة للنشء تواكب العصر الرقمي، مع تبني برامج خاصة لبناء شخصية قادرة على الحفاظ على الموروث، بموازاة السعي لتحقيق طموحات المستقبل وآماله، ولن يحدث ذلك إلا بالاهتمام بالمناهج وتطويرها بشكل دائم لمواكبة نتاجات العصر الرقمي، والمعلم القدوة صاحب مهارات التواصل الجيد في غرس القيم والعلوم الحديثة بطرق مبدعة، وصولاً إلى تعزيز فرص مراكمة الرصيد البشري للدولة: إنسان واعٍ بقضايا بلده، مؤهل تعليميّاً، يمتلك المهارات اللازمة للتفاعل مع المجتمع والعالم.

وإذا كانت دولة الإمارات من الدول التي تبرز فيها خطط الحفاظ على الهوية الوطنية من خلال جهود مستمرة، ومؤشرات مبتكرة لقياس الأداء على هذا الصعيد، مثل مؤشر الهوية الوطنية، الذي يمثل أداة رئيسية للحفاظ على مجتمع متمسك بهويته وانتمائه، إذ بلغت نسبة المؤشر الفعلية لمستوى الانتماء والهوية الوطنية للمواطنين 97.8% في عام 2021 ، فإن الحفاظ على هذه المعدلات، يتطلب تكاتفاً من جميع مؤسسات الدولة، ولاسيما المنوط بها مهمة إجراء الدراسات ووضع التوجهات الاستراتيجية، لذلك فقد حرصنا في تريندز للبحوث والاستشارات، بالشراكة مع معهد البحرين للتنمية السياسية، على تخصيص مؤتمر «تريندز الدولي للتعليم» هذا العام لموضوع «الهوية الوطنية في العصر الرقمي... استراتيجيات مقترحة للمحافظة على الهوية وتشكيل سلوكيات النشء»، الذي يعقد يوم الأربعاء الخامس من مارس، ويتضمن أجندة نقاشية ثرية للبحث في موضوعات عدة منها «التعليم والهوية في عالم متغير: تحديات ومخاطر» الذي سيناقش الأدوات والآليات التعليمية المتطورة للحفاظ على الهوية الوطنية، وسبل تعظيم الإيجابيات والحدّ من السلبيات في ظل تحديات العصر الرقمي، واستعراض التجارب الوطنية والدولية ذات الصلة بتعزيز دور التعليم في ترسيخ الهوية الوطنية، كما يناقش أيضاً محوراً مهمّاً آخر هو «التعليم والهوية في عصر الذكاء الاصطناعي والثورة الرقمية»، لقياس تأثيرات الرقمنة وتجلياتها المعرفية والإعلامية والمجتمعية على الهوية الوطنية، وسبل استفادة التعليم من هذا التطور في دعم الهوية الوطنية، واستشراف الفرص والتحديات في مستقبل التعليم والهوية الوطنية. 

جهود «تريندز» على هذا الصعيد تتوخى الرؤية الخليجية والإماراتية التي تجعل الحفاظ على الهوية جزءاً أساسيّاً من خططها للمستقبل، لذلك نسعى لاستشراف التحديات والاستفادة من تجارب العالم، وتجديد الأفكار الوطنية وشحذها بالخبرات وإثرائها بالمعارف اللازمة، لأن التعليم كما تقول الأمم المتحدة، هو «حجر الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات المستنيرة والمتسامِحة والمحرك الرئيسي للتنمية المستدامة».

*الرئيس التنفيذي- مركز تريندز للبحوث والاستشارات.