هناك علاقة قوية مباشرة بين التنمية والتوظيف ومعدلات البطالة، واللذين يسيران في خطين متوازيين، فالتوسع التنموي يزيد من التوظيف ويقلل من البطالة، وهو ما يفسر جزئياً تفاوت معدلات البطالة بين فترة وأخرى في نطاق البلد الواحد، فالدول التي لديها برامج تنموية ويتم تنفيذها عملياً تتمتع بأفضل وضع للقوى العاملة لديها، وذلك بغض النظر عن درجة غنى هذه الدول بالثروات الطبيعية، في حين يؤدي غياب أو ضعف برامج التنمية إلى ارتفاع معدل البطالة، مع ما يترتب عليه من أزمات اقتصادية ومعيشية.
وتشكل التجربة الخليجية درساً مهماً في هذا المجال، ففي سنوات السبعينيات والثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات نُفذت في كافة دول المجلس مشاريعٌ تنموية كبيرة، وذلك إلى جانب مشاريع البنى التحتية التي تطلّبت قوى عاملةً في العديد من التخصصات والمهن وأدت إلى استقدام أعداد هائلة من الأيدي العاملة الأجنبية بسبب النقص الكبير في الأيدي العاملة المحلية، وهو أمر كان لا مفر منه للاستجابة للمتطلبات التنموية المتسارعة المدفوعة بتضاعف عائدات النفط.
ومع حلول الألفية الثالثة حدث بعض التفاوت في التوسع الاقتصادي وتنفيذ المشاريع الاستراتيجية، مما أدى إلى تفاوت معدلات البطالة بين هذه الدول، وهي قضية مهمة يتعين التوقف عندها للاستفادة من تجارب الدول التي قلّصت معدلات البطالة لحدها الأدنى بفضل المشاريع الجديدة. لكن قبل ذلك يجب التوقف لتوضيح مسألة أكثر أهمية تتعلق بطبيعة المشاريع التي يتم تنفيذها ومدى مساهمتها في الاقتصاد المحلي. من الملاحظ أن البيانات المنشورة في دول المجلس تشير إلى تحقيق الناتج المحلي الإجمالي معدلاتٍ جيدةً، بما في ذلك القطاعات غير النفطية، إلا أن طبيعة هذه الزيادة في عدد من دول المجلس جاءت بمساهمة نشطة من تنمية اقتصاد الإنتاج المادي، كالتصنيع والتقنيات الحديثة، وذلك بالاستفادة من الدمج بين الإنتاج المادي وغير المادي المعتمد على المعرفة، في الوقت الذي يتباطأ فيه مثل هذا التوجه في دول أخرى، خصوصاً وأن قطاع الخدمات، بما فيه الخدمات المالية، أصبح يعتمد بصورة متزايدة على الخدمات التقنية، وهو ما يفسر إغلاق العديد من الفروع وتراجع فرص العمل في القطاع المصرفي.
وفيما يتعلق بتنمية قطاع الإنتاج المادي المرتبط بالتقنيات المتقدمة، تشكل تجربَتَا كل من الإمارات والسعودية، تجربتين رائدتين، إذ نفذتا في السنوات العشر الماضية مشاريع مهمة جداً في قطاعات الصناعة والطاقة المتجددة والتقنيات الحديثة، وهو ما أدى لزيادة مساهمة الاقتصاد المادي في الناتج المحلي الإجمالي وتوفير مئات الآلاف من فرص العمل، بحيث انخفضت البطالة إلى حدها الأدنى أي، أقل من 3% في الإمارات، وهو أدنى من المعدل العالمي، كما تمكنت السعودية من تحقيق إنجاز مميز بعد أن انخفضت البطالة من 14% إلى 4.9% للسعوديين وغير السعوديين في غضون السنوات السبع الماضية، كما ارتفعت مشاركة المرأة في سوق العمل من 15% إلى 38% خلال السنوات القليلة الماضية، وهو ما أشادت به منظمة العمل الدولية، حيث يسهم القطاع الخاص بفعالية في توظيف الأيدي العاملة بعد أن وفرت له الظروف المناسبة لتطوير أنشطته، كما أسهم ذلك في الحد من تضخم الجهاز الإداري.
إنهما تجربتان خليجيتان يمكن الاستفادة منهما، ليس على المستوى الخليجي فحسب، وإنما العربي أيضاً، والنتيجة التي يمكن الخروج بها تتمثل في أن زيادة القيمة وحدها لا تسهم كثيراً في توفير فرص العمل، ولا بد من تنمية الاقتصاد المادي من خلال دمج الإنتاج بالمعرفة وتأهيل العاملين وتشجيع الابتكار والبحث العلمي لحل مشكلة البطالة، خصوصاً وأن كافة دول المجلس تملك الإمكانات والقدرات اللازمة لتنفيذ هذه التوجهات التنموية التي تسهم في استقطاب الاستثمارات وتشجيع القطاع الخاص المحلي والأجنبي الذي تتوفر له ميزات تفضيلية بفضل البنى التحتية المتقدمة التي أقيمت خلال العقود الماضية والتي يمكن تسخيرها لدعم هذه التوجهات، وبالأخص لتوفير فرص العمل التي تأتي من خلال التوسع الاقتصادي، وهو المخرج الوحيد من معضلة البطالة. 

*خبير ومستشار اقتصادي