جرت مياه كثيرة في مجرى منظمة التجارة العالمية منذ تأسيسها عام 1995، إذ تغيرت العلاقات الاقتصادية والسياسية بصورة جذرية خلال الثلاثين عاماً الماضية التي أعقبت خروج العالم من نظام متعدد الأقطاب إلى عالم أحادي القطب، حيث سادت أجواء من عدم اليقين حول سير العلاقات الدولية بسبب الضبابية.
وكنا في دول مجلس التعاون الخليجي نحاول الخروج بتصورات عملية حول كيفية التعامل مع الوضع الجديد، خصوصاً وأن التجارةَ تشكل أهميةً كبيرة لدول المجلس بحكم موقعها وثرواتها، حيث تم إعداد بعض الدراسات، والتي أدت بدورها إلى إسراع دول المجلس للانضمام إلى المنظمة تباعاً إلى جانب 160 دولة عضواً و24 دولة مراقبة، وهو القرار الصحيح الذي اتخذ في حينه.
وعلى مدى عشرين عاماً اكتسب التوجه العالمي الذي قادته المنظمة والرامي إلى تحرير تجارة السلع والخدمات زخماً ليس بالقليل والذي من خلاله تم توفير ملايين فرص العمل، وبالأخص في البلدان الأقل نمواً. إلا أن هذا الخط التصاعدي أخذ في الانحسار منذ عشر سنوات تقريباً متأثراً بجوانب عدة يأتي مِن ضمنها التغير الذي طال موازين القوى العالمية، بما في ذلك العودة لعالم متعدد الأقطاب، كما أشار «جوزيف بوريل» مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، وذلك إلى جانب أن العديد من الدول، وبالأخص المتقدمة التي تبنت ودافعت بقوة عن تحرير التجارة، وجدت أن هذا التوجه قد أضر بوضعها التجاري والاقتصادي بسبب تكاليف الإنتاج والقدرات التنافسية.
وبما أن الدول المتقدمة هي مَن وضع أنظمةَ منظمة التجارة خلال عملية تحضير استمرت أكثر من أربعين عاماً، فقد أخذت في التخارج من نطاق الالتزامات، خصوصاً وأن العديد من قضايا النزاعات التجارية التي رفعت لمنظمة التجارية العالمية جاءت لغير صالح هذه الدول.
وفي المؤتمر الأخير الذي عقد بالعاصمة أبوظبي في شهر فبراير الماضي، والذي وفرت له دولة الإمارات كل أسباب النجاح، جرت خطوات مهمة للإسهام في تجاوز العديد من المآزق، رغم تفاوت المواقف بين الدول الكبيرة، وبالأخص تلك التي انتقلت خلال السنوات الماضية من دول نامية إلى ناشئة مثل الهند التي رفضت الاتهامات الموجهة إليها بعرقلة المحادثات خلال المؤتمر قائلة إنها «تريد فقط العدالة في الاقتصاد العالمي الذي تقف قواعده منذ وقت طويل ضد الدول الفقيرة»، كما أوضح وزير التجارة الهندي «بيوش غويال» الذي أضاف قائلاً: «إن أهم أولوية للمنظمة هي استعادة هيئة الاستئناف التابعة لها والمسؤولة عن تسوية النزاعات بين الدول الأعضاء والمكونة من 7 دول والمتوقفة عن العمل منذ أواخر 2019»، وهو ما يؤكد استنتاجنا السابق حول القرارات التحكيمية الصادرة في السنوات الأولى من عمر المنظمة.
وإضافة إلى ذلك، سارت الأمور عكس التيار الذي قادته المنظمة الرامي إلى تحرير التجارة، حيث تزايدت الحمائية والحمائية المضادة في الكثير من البلدان النامية والمتقدمة، وذلك بعد أن شهدت العديد من الدول احتجاجات بسبب الانفتاح الذي أضر ببعض قطاعاتها الإنتاجية، مثل احتجاجات المزارعين الأوروبيين والتي ما زالت مستمرة منذ أكثر من شهرين.
أما الآفاق فتبدو قاتمة بسبب كثرة الغيوم التي تحيط بعمل المنظمة والسياسات الحمائية المتوسعة، حيث أعربت الصين على سبيل المثال مؤخراً عن «قلقها البالغ إزاء التحقيق التجاري الذي بدأه الاتحاد الأوروبي بشأن السيارات الكهربائية الصينية»، إذ هناك منافسة حادة بين الصين والاتحاد الأوروبي حول تجارة السيارات الكهربائية التي تتفاوت أسعارها بين الجانبين بصورة كبيرة.
لذا يدور السؤال الجوهري حول دور المنظمة المستقبلي: هل ستؤدي التغيرات الاستراتيجية العالمية السريعة في موازين القوى الاقتصادية إلى تغير قواعد اللعبة في التجارة الدولية، أم أن الجميع سيسهم في مساعدة المنظمة على القيام بدورها المهم في تنمية التجارة وتسهيل انسياب التبادل التجاري بين الدول لما فيه مصلحة كل الأطراف؟ 

* خبير ومستشار اقتصادي