حتى الأمس القريب كنتُ أعتقد أن اللقاح الطبّي ضد مرض معدٍ من نوع كوفيد- 19 على سبيل المثال، يشكّل قوّة هجومية للفتك بالمرض وإنقاذ الإنسان من ويلاته وشروره. لكني اكتشفتُ الآن أن هذا الاعتقاد غير صحيح؛ فاللقاح ليس قوة ضاربة، ولا هو قوة حراسة.. إنه مجرّد رسالة إلى الجهاز المناعي في جسم الإنسان. مهمة هذه الرسالة تنبيه الجهاز إلى أن عدواً خارجياً على وشك الاقتحام؛ فيطلق الجهاز قوات الدفاع الأمامية في الوقت المناسب ويستنفر قواه لمواجهة العدو القادم. حتى إذا اخترق هذا العدو الجسم يكون جهاز المناعة مستعداً ومتحفزاً لملاقاته والفتك به.

القيادة العامة لجهاز المناعة معدّة سلفاً لمواجهة كل أنواع الاعتداءات الخارجية (الأوبئة)، لكن هذه القيادة تحتاج إلى جرس إنذار، واللقاح هو ذلك الجرس الذي ينبّه الجهاز إلى أن العدو على الأبواب، وأنه قد يقتحم جسم الإنسان في أي لحظة. يكفي هذا الإنذار حتى يستنفر الجهازُ قواه الذاتيةَ على قاعدة تحديد نوع العدو. وتلك هي أهمية اللقاح الذي يحمل نماذج لهذا العدو لتعريف جهاز المناعة عليه كي يعدّ أسلحته الدفاعية المناسبة. بمعنى أن اللقاح هو رسالة من الطبيب إلى جهاز المناعة بأن العدو على الأبواب وأن هذه هي مواصفاته.. فاستعدوا لمواجهته والقضاء عليه. وبهذا المعنى يكون اللقاح الصوت التحذيري الذي يطلقه الطبيب لإيقاظ جهاز المناعة حتى لا يأخذه الوباء على حين غرّة. في جهاز المناعة قوى متعددة الاختصاصات الدفاعية. هناك قوى لمواجهة وباء الجدري مثلاً، تحتاج لقاحاً معيناً لاستنفارها.

وهناك قوى لمواجهة السلّ أيضاً.. إلى آخر ما هناك من أمراض. لقد أوجد الله في جسم الإنسان قوى متعددة الاختصاصات لمواجهة حالات متعددة من الأمراض، وكل ما يحتاجه جسم الإنسان هو تحفيز هذه القوى واستنفارها في الوقت المناسب لمواجهة أي اقتحام مرَضي من الخارج. الدكتورة كاترين كاريكو كانت تعرف هذه الحقائق، وعندما انتشر وباء كوفيد- 19 انصرفت للبحث عن الجرس لتنبيه جهاز المناعة في الإنسان. لم تكن تبحث عن علاج أو دواء. كانت تبحث عن الجرس المناسب الذي يوقظ جنود جهاز المناعة. طال بحثها دون جدوى حتى ظنّت الشركة الطبية التي تعمل معها أن استمرار البحث أصبح مضيعةً للوقت، فصرفتها من العمل. لم تيأس الدكتورة كاترين، واصلت البحث في مختبرها حتى اكتشفت الجرس الذي يوقظ جهازَ المناعة ضد وباء كوفيد- 19 من سباته ويحثّه على استنفار قواه للتصدي للعدو القادم. وبسبب هذا الاكتشاف مُنحت جائزة نوبل للعلوم الطبية هذا العام.

فالاكتشاف أنقذ حياة ملايين الناس، شأن كل اكتشاف طبي يتعلق باستنفار قوى جهاز المناعة ضد هذا المرض أو ذاك. وقبل الدكتورة كاريكو، عرفت الإنسانيةُ علماءَ كباراً نجحوا في هذا الميدان وعرفوا كيف «يوقظون» جهازَ المناعة في جسم الإنسان في الوقت المناسب. منهم الدكتور ماكس ثيلر مكتشف اللقاح ضد وباء الحمى الصفراء في ثلاثينيات القرن الماضي، وألبرت سابين وجوناس مكتشف اللقاح ضد مرض شلل الأطفال.. وسبق للعالَم أن عانى طويلاً من مرض الجدري، ولم يتخلّص منه إلا بلقاح محفّز لجهاز المناعة أيضاً.

وفي الشهر الماضي أقرت منظمة الصحة العالمية لقاحاً جديداً ضد الملاريا التي تفتك بملايين البشر سنوياً، خاصة في أفريقيا.وتقول المنظمة إن اللقاحات زهيدة الثمن أنقذت حياة مليارات الأشخاص. وخلافاً لذلك يستمر «الديناميت»، الذي ندم مكتشفه «ألفريد نوبل» وقرر تخصيص ثروته لتشجيع الإنجازات السلمية، في قتل ملايين البشر. وشهد القرن العشرون وحده مقتلَ ما بين مائة ومائة وخمسين مليون إنسان. فالسلاح يتقدّم على اللقاح في عالَم يَقتل عن قصد ويشفي بالصدفة.. يتنازعه سلاح قاتل فتاك تنفق مئات مليارات الدولارات لإنتاجه، ولقاح ضد الأمراض ينقذ ملايين البشر بتكلفة رمزية.

* كاتب لبناني