ما زالت حالةُ عدم الحسم العسكري مستمرةً في أوكرانيا بعد دخول الحرب عامها الثالث. استعادت القواتُ الروسية المُبادرة الهجومية منذ الخريف الماضي وحقّقت تقدماً بطيئاً بعد جمودٍ استمر لأشهرٍ على خطوط التماس. غير أنه بات واضحاً بعد عامين ونيف أنها لا تستطيعُ تحقيق أهدافها الكبرى، سواء الأصلية، وأهمها الوصول إلى كييف والقضاء على ما تسميه «نازية جديدة»، أو المُعدَّلة وأبرزها إكمال السيطرة على المناطق الجنوبية والشرقية من أجل شطر أوكرانيا إلى قسمين. ولا تقدر القواتُ الأوكرانية في المقابل على استعادة زمام المبادرة بعد أن انتهى ما أُطلق عليه هجومُ خريف 2022 بدون أن يحقَّق أهدافَه الأساسية. وصارت استعادةُ المناطق التي سيطرت عليها قواتُ روسيا أصعب من أي وقتٍ مضى. والحالُ انه قد لا يكونُ في إمكان أي من الطرفين تحقيق نقلةٍ نوعيةٍ في الميدان في المدى المنظور.
ويبدو أن رهان أوكرانيا وحلفائها على أن تُلحق حزمُ العقوبات غير المسبوقة ضرراً لا يُمكنُ للاقتصاد الروسي تحمله قد أخفق. فقد تَحَمَّلَ الروسُ الضررَ، والذي تبين أنه أقلُ مما أراده «الُمعاقِبون»، وأعادوا صياغةَ سياساتِهم الاقتصادية والمالية بكفاءةٍ سعياً لتقليل آثار الإنفاق العسكري المهول. ولهذا تستطيعُ روسيا تحمل استمرار الوضع الراهن لوقتٍ أطول.
كما تجاوز الأوكرانيون الصدمةَ الأولى في فبراير 2022 وصدماتٍ تالية، وسعوا للتعود على الحياة تحت الخطر، وحالت المعوناتُ الغربيةُ الكبيرة من دون انهيار اقتصادهم. وبالرغم من تفاقم أعباء دعم أوكرانيا وظهور علامات تململٍ في بعض الدول الغربية، واتجاه دولٍ أخرى إلى مراجعة مواقفها، ما زالت واشنطن والعواصم الكبيرة في أوروبا تُظهرُ تصميماً على مواصلة هذا الدعم. وكان خطابُ حالة الاتحاد في 8 مارس الجاري واضحاً في ذلك إذ حرص الرئيس بايدن على توجيه رسالة وصفها بأنها بسيطة إلى الرئيس بوتين «الذي أعرفه منذ فترة طويلة»، حيث قال: «لن نتراجع». ودعا أعضاء الكونجرس الحاضرين إلى الإسراع بتقديم مزيدٍ من المساعدات لصالح أوكرانيا.
يُصرُّ الطرفان إذن على مُواصلة الحرب بالرغم من غياب أفقٍ عسكري واضحٍ لها، وهذا أمرُ غير مألوف في تاريخ حروب العصر الحديث، إذ المفترض، حسب هذا التاريخ، أن وصول حربٍ إلى مثل هذه النقطة يفتحُ الطريق الذي كان مُغلقاً للانتقال من ميادين القتال إلى موائد المفاوضات. لكن طبيعة الحرب في أوكرانيا وتعقيداتها تؤخرُ هذا الانتقال.. فهي ليست حرباً ثنائية. حلفاءُ أوكرانيا الغربيون حاضرون معها ويواصلون دعمَها. وحلفاء روسيا «الشرقيون» يقفون معها بأشكالٍ مختلفة ودرجاتٍ متفاوتة. كما أنها ليست حرباً عالميةً؛ فحلفاءُ الطرفين يدعمونهما عن بُعد، ويحرصون على عدم التورط المباشر لتجنب تَحوُّلها إلى حرب عالمية ستكونُ تكاليفُها فادحةً في ظل جاهزية الأزرار النووية.
ولكن بالرغم من أنها ليست حرباً عالمية، فمن شأن نتيجتها أن تؤثر في مستقبل العالم بعدها. وستحددُ هذه النتيجةُ أحدَ أهم معالم ما سيكونُ عليه النظامُ العالمي الذي يمرُ الآن في مرحلة اضطرابٍ شديد. وهذا هو تحديداً ما يجعلُ إنهاءَها صعباً، ولكنه ليس مُستحيلاً.

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية