طورت الهندُ علاقاتٍ وثيقةً مع أفغانستان، خلال فترتي حكم الرئيسين حامد كرزاي وأشرف غني، إذ استثمرت أكثر من 3 مليارات دولار في بناء مدارس وطرق وسدود ومبنى البرلمان. كما بنت طريقاً بطول 218 كيلومتراً من زرنج إلى دلارام في جنوب غرب أفغانستان من أجل تسهيل حركة البضائع والخدمات. وأنشأت مشروع «سد سلمى» لتوليد الطاقة في إقليم هرات. كما منحت مواطنين أفغاناً تأشيرات دخول بالمجان من أجل السفر إلى الهند لأغراض التعليم والعمل والعلاج الطبي. وكان هدف الهند من وراء هذه الاستراتيجية الرامية لتطوير البنية التحتية الأفغانية هو تقوية روابطها مع أفغانستان، وتغذية علاقات إيجابية مع الشعب الأفغاني.
لكن الهند، ومثل بقية دول العالم، تفاجأت باستيلاء «طالبان» السريع على البلاد في عام 2021. ومنذ ذلك الحين وهي تواجه مأزقاً بخصوص الكيفية التي ينبغي لها أن تدبّر بها علاقاتِها الثنائية مع هذا الجار المهم لها استراتيجياً. وكانت نيودلهي قد قلصت الروابط على المستوى الشعبي بعيد دخول «طالبان» كابول. كما عمدت إلى إلغاء كل التأشيرات الممنوحة للمواطنين الأفغان، وسط مخاوف أمنية وتقارير عن إساءة استخدام هذه التأشيرات.
لكن بينما واصلت الهندُ ابتعادَها عن «طالبان»، بدأت الصين في زيادة انخراطها الدبلوماسي مع سلطات كابول الجديدة وتبادلت معها المبعوثين. وبعد أن خلصت إلى أن الوضع لا يبدو أنه سيتغير، قررت الهند أيضاً انتهاجَ سياسة خارجية براغماتية عبر التواصل مع حكومة «طالبان». ولتعديل سياستها حتى تنسجم مع الواقع الجديد في كابول، زار وفدٌ من كبار المسؤولين الهنود أفغانستان، حيث التقى وزير خارجية «طالبان» أمير خان متقي في كابول بهدف بدء فصل جديد في العلاقات بين الجانبين. وإذا كانت الهند لا تعترف رسمياً بحركة «طالبان»، فقد سعت إلى أن يكون لها نوعٌ من التواصل مع حكومة الحركة. ويذكر هنا أن نيودلهي ما زال لديها وجود دبلوماسي مقلص في كابول، ومؤخراً قدمت لبعض المشاركين من «طالبان» عرضاً عبر الإنترنت حول الثقافة والتشريع ومناخ الأعمال، وذلك على مدى أربعة أيام.
حركة «طالبان»، التي تسعى أيضاً لاكتساب مصداقية دولية، تحرص على أن تواصل الهندُ أنشطتَها التنمويةَ في أفغانستان، لا سيما أن الهند تعد واحدة من أسرع الدول نمواً في العالم حالياً، واقتصادها المتنامي يشهد زيادة في مكانتها عالمياً. وكل هذا يبوّئها مكانةً تسمح لها بالتفاوض مع «طالبان» لضمان خدمة مصالحها بشكل أفضل. ورغم أن الهند لم تعترف رسمياً بحركة «طالبان»، فقد استمرت في تزويد أفغانستان بالحبوب في وقت الحاجة حينما كانت تواجه نقصاً غذائياً. كما قدمت لها مساعدات طبية مثل لقاحات كوفيد- 19، إلى جانب استمرارها في دعم أكثر من 500 مشروع في مجالات الرعاية الصحية والتعليم والزراعة والبنية التحتية.
وكانت الهند في يناير الماضي قد أرسلت وفداً إلى أفغانستان للمشاركة في اجتماع «مبادرة التعاون الإقليمي» الذي نظمته «طالبان»، وضم ممثلين ومبعوثين من 12 دولة، من بينها الصين وروسيا وإندونيسيا وأوزبكستان وباكستان. ويُعد هذا الاجتماع الذي ضم مسؤولين هنوداً كباراً ووزير الخارجية الأفغاني خطوة حذرة أخرى في اتجاه الاعتراف بحكم «طالبان» في أفغانستان. وشملت المناقشات بين الجانبين استمرار نيودلهي في تقديم المساعدات الإنسانية، وسبل تعزيز العلاقات الاقتصادية، بما في ذلك الاستفادة من ميناء تشابهار الذي تطوره الهند في إيران.
المسؤولون الهنود الزائرون التقوا أيضاً الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي ومسؤولين من بعثة المساعدة التابعة للأمم المتحدة في أفغانستان، ووفداً من ممثلي قطاع الأعمال الأفغاني. وكان هذا ثاني اجتماع علني بين الهند و«طالبان» منذ وصول الأخيرة إلى الحكم عام 2021. أما الاجتماع الأول، فقد عقد عام 2022 حينما التقى وفدٌ من الهند بوزير خارجية «طالبان» متقي. ويعد هذا خروجاً واضحاً عن نظرة الارتياب التي كانت تنظر بها الهند إلى «طالبان» في التسعينيات. ففي ذلك الوقت، كانت «طالبان» تقاتل القوات الحكومية الأفغانية المدعومة من الولايات المتحدة. وكانت الهند تدعم القوات الحكومية، لأن «طالبان» كانت على علاقة وثيقة بباكستان. كما كانت الهند تحمّل جهات من «طالبان» مسؤولية الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها. وكانت سياسة الهند آنذاك تتمثل في أنه لا توجد «طالبان» جيدة وأخرى سيئة. لكن تلك الأيام باتت الآن من الماضي، بعد أن انتهجت الهند مساراً عملياً للتعامل مع «طالبان» التي لم يعد لها منافسون في أفغانستان حالياً، غير أنه من غير المعروف حتى الآن كيف سيتبلور هذا التعامل. فمن الواضح أن الهند اتخذت قراراً بالتعامل مع «طالبان» على اعتبار أن ما يحدث في أفغانستان له تأثير أيضاً على الهند والمنطقة، وأي انعدام للاستقرار في أفغانستان سينعكس أيضاً على الهند، وخاصة مناطقها الحدودية الحساسة. ولهذا، فإن التعامل مع حكومة «طالبان» ربما يكون مفيداً للهند.

*رئيس مركز الدراسات الإسلامية- نيودلهي