«خطاب النصر» تقليدُ معروف في الدول التي تأخذُ بأنظمة حكمٍ رئاسيةٍ أو شبه رئاسية. خطابٌ يُلقى عادةً في نهاية الانتخابات أو بُعيدها. لكن خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عقب إعادة انتخابه قبل أيامٍ ليس تقليدياً. فهو مُحمَّلٌ برسائل مهمةٍ في لحظة بالغة الصعوبة يمر بها العالم.
ولهذا من الطبيعي أن تكون الرسائلُ الأهم هي التي ربما قصد أن تصل إلى مَن يعنيه الأمر في الغرب، وإن لم يُحَّدِد عنوان أيٍ منها. نجدُ رسالةً أولى في حديثه عن إعطاء أولوية للمسائل المتعلقة بالعملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، وفي مقدمتها المحافظة على وحدة الدولة الروسية: «عندما نتوحد لا ينجح أحد في ترهيبنا». هذا ما حدث في التاريخ، حسب رؤيته، وهو ما يحدثُ الآن أيضاً. والحالُ أن هذا أحد دروس التاريخ في العالم، وليس في روسيا فقط. فهذه الوحدةُ هي حجرُ الأساس في بناء الدولة ومصدرُ منعتها. وهي، بالنسبة إلى الدول عامة، مثلُ مناعة الجسم لدى الإنسان الفرد.
وقد بدا الرئيس بوتين متفائلاً، في رسالته الثانية، بما أمكن تحقيقه في الفترة الماضية. وربما أراد أن يعيد طمأنة الروس إلى وضع الجيش على جبهات الحرب التي تمتدُ على طول نحو ألف كيلومتر. ولهذا تحدّث عن أن قواته في وضعٍ قوي، وتتمتعُ بأفضلية وتمتلكُ زمام المبادرة. وإذ أكد مُجدداً رغبة روسيا في إحلال السلام، حرص على توضيح عدم تعجلها من أجل التحرك باتجاه تحقيقه. لكن جديد رسالته هذه أنه لا يجدُ بعدْ مَن يمكنُ إجراء محادثاتٍ معه بشأن تحقيق هذا السلام: «روسيا تحتاج لأن تفكر في الطرف الذي يمكنها إجراء محادثات معه لإحلال السلام في أوكرانيا، لأن فولوديمير زيلينسكي ليس خياراً» حسب تعبيره.
وكان متوقعاً أن يُدلي بوتين بدلوه في الجدل الدائر منذ أسابيع في أروقة حلف شمال الأطلسي («الناتو») بشأن كيفية تطوير دوره (الحلف) لدعم أوكرانيا عسكرياً في الحرب. فحملت الرسالة الثالثة المهمةُ من طرف الرئيس بوتين تحذيراً صريحاً من خطر نشر قواتٍ غربية في أوكرانيا، لأن ذلك «قد يقود إلى حربٍ عالمية ثالثة»، لكنه استبعد ضمنياً حدوثها، وقال إن أحداً ليست له مصلحة في نشوبها.
وعندما سُئل، في المؤتمر الصحفي عقب الخطاب، عن مدى ديمقراطية الانتخابات الروسية، حمّل جوابَه رسالةً رابعةً تدلُ على ثقةٍ ربما لم تُلحظ بهذا المقدار من قبل، بعد أن دخل النظامُ السياسي الأميركي في نفق انقسامٍ عميق قد يؤدي إلى صدامٍ مجتمعي في انتخابات شهر نوفمبر المقبل الرئاسية. فقد قارن بوتين بين سلاسة الانتخابات الروسية وتعقيدات نظيرتها المُنتظرة في الولايات المتحدة الأميركية، وضرب مثلاً بما اعتبره استخداماً للقضاء خدمةً لمصلحة مرشحٍ ضد منافسه، ليصل إلى أن ما يحدثُ، حسبَ تصوره، «كارثة وليس ديمقراطية».
رسائلُ قد تُفيدُ في معرفة كيف ستمضي السياسةُ الروسية في أجواء عالميةٍ يُتوقع أن تبقى مُضطربةً خلال العام الجاري، فيما يَرقبُ الجميعُ ما ستسفرُ عنه الانتخاباتُ الأميركية القادمة.

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية