يدخل العالَمُ بسرعة متناهية مجالَ الذكاء الاصطناعي مع ما يمثله من تحديات اقتصادية واجتماعية وأمنية تتطلب الاستعدادَ لها لتجنب عامل المفاجأة، حيث تأتي التشريعات المنظمة لأنشطة واختراعات الذكاء الاصطناعي في مقدمة هذه المتطلبات والتي ستحدد حقوق وواجبات مختلف الأطراف، وكذلك الإجراءات الخارجة عن القانون لتجنب الفوضى التي قد تحدث في حالة غياب هذه التشريعات التنظيمية.
وفي الجانب المالي يتوقع أن يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى زيادة الاعتماد على الخدمات المالية والمصرفية الذكية وستزداد معها عمليات النصب والاحتيال التي تكلف المؤسسات المالية والبنوك والأفراد حالياً مبالغ طائلة وتؤدي إلى فقدان الثقة في هذه المعاملات في ظل غياب التشريعات الرادعة، كما أن ذلك يرتبط بأسعار السلع والتي ستتأثر بفعل سيطرة شركات التكنولوجيا الكبيرة على الأسواق، ليس في بلدانها فحسب، وإنما على المستوى الدولي أيضاً، حيث يلاحظ هيمنة بعض الشركات الكبيرة حالياً على قطاعات وأنشطة تجارية ومالية عديدة، مما قلل التنافسية ورفع الأسعار إلى مستويات قياسية مبالغ فيها، كأسعار الهواتف الذكية والحواسيب المحمولة.
وفي الجانب الاجتماعي والأمني، فإن عدم وجود قواعد تشريعية للذكاء الاصطناعي سيسهم في زيادة التوترات الاجتماعية والتجاوزات الأمنية التي تهدد أنشطة القطاعات الاقتصادية وسلامتها، وبالتالي تعيق هذه الأنشطة وتتسبب في خسائر اقتصادية ومالية كبيرة، كتهديد وسائل النقل المختلفة وتخريبها وتلفيق بعض الأحداث والتدخل في نتائج الانتخابات، مع ما يترتب على ذلك من تشويه للحقائق.
وبما أن أنشطة الذكاء الاصطناعي ترتبط مباشرة بالابتكارات، فإن مثل هذا القانون سيؤدي إلى حماية حقوق الابتكار ضمن حماية الملكية الفكرية، خصوصاً وأن هناك زيادةً ملحوظةً في عدد الدول التي تطورت لديها أنشطة الابتكار خلال السنوات والعقود الماضية، مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل، كما توجد مؤشرات قوية على ارتفاع الاستثمارات الخليجية في التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي.
ومن هنا بادر الاتحاد الأوروبي مؤخراً إلى سن أول قانون في العالم لتنظيم الذكاء الاصطناعي بعد إقراره من البرلمان الأوروبي والمتوقع أن يدخل حيز التنفيذ في مايو القادم مستبقاً بذلك بقيةَ الدول ومتفادياً الكثيرَ من التداعيات التي قد تترتب على غياب مثل هذا التشريع الذي أصبح ضرورياً لتنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية ووقف التجاوزات التي تطالها، ولتعزيز الأمن والاستقرار، كما أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الماضي بالإجماع أولَ قرار عالمي بشأن الذكاء الاصطناعي.
لذا، فقد أصبح من الضرورة أن يشكل هذا التوجه جزءاً من القواعد التشريعية، بعد أن أضحى جزءاً من الحياة، كما قالت رئيسة البرلمان الأوروبي «روبرتا ميتسولا»، على اعتبار أن هناك الكثير من المخاطر التي ستنجم عن التوسع في الذكاء الاصطناعي والتي بدأت بعض بوادرها في الظهور والانتشار.
وبما أن دول مجلس التعاون الخليجي تستثمر بقوة في قطاعات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، حيث وقعت العديدَ من الاتفاقيات مع شركات عالمية عملاقة لتطوير هذه التقنيات، فإنه يتوقع أن تتحول في غضون العقد القادم إلى أحد المراكز العالمية للابتكار في هذه المجالات، وهو ما يتطلب وجود بنية تشريعية لتنظيم أنشطة التقنية والذكاء الاصطناعي، حيث يمكن للأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي، وبالتنسيق مع الدول الأعضاء، البدء في تحضير هذه البنية التشريعية التي ستسهم في تنظيم أنشطة هذا القطاع الحيوي المستقبلي وتفادي التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية السلبية التي ستترتب عليه، مما سيعزز الثقة في الأسواق الخليجية ويساعد في استقطابها لاستثمارات التكنولوجيا المتقدمة، ويدعم الاستقرار والأمن الاقتصادي والاجتماعي.. كما يضع دول المجلس في مقدمة دول العالم المنظِّمة لأنشطة وابتكارات الذكاء الاصطناعي، مما سيمنحها مكانةً متقدمةً في التشريعات العالمية الحديثة تتيح لها تحقيق مكاسب من خلال تطوير واستقطاب شركات التقنيات الباحثة عن الأرضيات المناسبة للعمل في بيئة تشريعية قوية ومنظمة تضمن حقوق ابتكاراتها، بما في ذلك حقوق الملكية الفكرية للذكاء الاصطناعي. 

*خبير ومستشار اقتصادي