قبل أكثر من قرنين من الزمن، وقبيل انفجار الثورة الفرنسية، طلب أحد المعجبين بالإمبراطورة ماري أنطوانيت من صانع الساعات (بريكه) صناعة ساعة يد مميزة لا مثيل لها للإمبراطورة، وأبلغه أن موازنة المشروع مفتوحة. لا يهم كم تكلّف، إنما المهم أن تكون الساعة نسيجاً لوحدها.
بدأ العمل على صناعة الساعة الخاصة على الفور، إلا أن الثورة الفرنسية أطاحت برأس ماري أنطوانيت، ونجا صانع الساعة من المقصلة بالصدفة. ولم تصبح الساعة جاهزة إلا بعد 34 عاماً على مقتل الإمبراطورة التي صُنعت لها ومن أجلها.
وما تزال هذه الساعة التي لم تتعرّف على يد ماري أنطوانيت، محفوظة حتى اليوم في المتحف الملحق بقصر فرساي.
وردت هذه القصة في كتاب جديد صدر للمؤرخة الإنجليزية ربيكا ستروثرس عنوانه «أيادي الوقت». وفي هذا الكتاب تروي قصة الساعة من عهد الفراعنة (الساعة المائية) وحتى اليوم (الساعة الإلكترونية)، مروراً بالساعة الشمسية التي تعتمد على حركة الظل.
وتتناول القصة مجموعةً كبيرةً من أباطرة وعلماء وفنانين ومهندسين عملوا معاً، كلٌّ في مجال تخصّصه ولأسبابه الخاصة، على إنتاج «ساعات يد» كانت حصراً على الأثرياء إلى أن فرض وجود الساعة «ثقافة التوقيت» في العلاقات الاجتماعية. ذلك أن معرفة الوقت تعني توظيف هذه المعرفة. في القرن التاسع عشر –وبعد الثورة الصناعية- كان الصناعيون يعتبرون أوقات العمل مفتوحةً ومطلقة، لكن جاءت الساعةُ لتحدّدها.
ومع الوقت، تطوّرت صناعة الساعة مع انخفاض ثمنها وانتشار استخدامها وأصبحت في أيدي الناس العاديين، ولم تعد تقتصر على أيدي الملوك والأمراء وذوي النفوذ الأثرياء.
ترتبط الساعة بسويسرا، لكن الساعة ليست اختراعاً سويسرياً. هاجرت عائلة فرنسية إلى سويسرا حاملةً معها أسرارَ وفن صناعة الساعة. ومن هناك تمّ تطوير الصناعة لتصبح دليل السفن البحرية، مما جعل الملاحةَ عبر المحيطات أكثر أماناً.
ولأقدم ساعة في العالم قصة مثيرة. ففي «سوق البرغوت» في لندن (وهو سوق شعبي تُباع فيه تحف قديمة كل يوم أحد، ومنتشر في معظم المدن والعواصم الأوروبية)، بيعت في عام 1980 ساعةُ يد بمبلغ 16 دولاراً فقط. أما ثمنها الواقعي كتحفة نادرة فيقدّر بعشرات ملايين الدولارات. لم يعرف البائع ولا الشاري بذلك إلا بعد سنوات.. وبالصدفة. وتتهافت المتاحف على شراء هذه الساعة لقيمتها المعنوية التاريخية.
لا توجد «آلة» أقرب إلى الإنسان المعاصر وأكثر التصاقاً به من الساعة. ولإدراك أهميتها يكفي تصوّر الحياة العصرية من دون ساعة. كان امتلاكها يتطلب ثروةً. الآن يمكن شراء ساعة يد ببضعة دراهم.
هذا التباين الواسع في ثمن الساعة لا يغير من جوهر الأمر، وهو أن الساعة أصبحت الناظم للعلاقات الإنسانية والضابط لها، ولو أن الإنسان العادي يحصي عددَ المرات التي ينظر فيها إلى ساعة يده خلال اليوم الواحد لمعرفة الوقت، لأدهشه العدد. يكفي تصوّر مجتمع في القرن الحادي والعشرين لا يعرف الساعة حتى ندرك في أي عالم يعيش؟!
نتعامل مع هذا الأمر وكأنه أمر طبيعي وواقعي، لكن هل تساءلنا: كيف كان الأمر قبل صناعة الساعة؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد من تصوّر عالمنا الحديث من دون ساعة!

*كاتب لبناني