أسست الكوارث على مدى التاريخ والجغرافيا لثقافات واتجاهات جديدة، لكن وباء كورونا يؤسس (ربما) لاتجاهات سياسية وثقافية جديدة ومختلفة، فمنظومات العولمة والاعتماد المتبادل بين الأمم تواجه تحديات استراتيجية، وكذلك تجري مراجعة لمنظومات التعليم والعمل والأسواق وأسلوب الحياة والإقامة والمدن والنقل والإمداد،.. الحياة المعاصرة بمجملها تتعرض اليوم لهزة كبيرة، وهي أيضاً مراجعات تصاحب خيارات وبدائل متاحة في العمل والحياة قدمتها تطورات التكنولوجيا مثل الحوسبة والشبكية والروبتة، واتجاهات اجتماعية وثقافية جديدة صعدت بفعل الفرص والمعاني التي أنشأتها التكنولوجيا الجديدة، مثل الفردية والتأمل العميق والارتقاء الروحي المستقل عن الاتجاهات والأفكار والثقافات الجماعية والكبرى.
وهكذا يدفعنا الوباء إلى خيارات هي وإنْ كانت متاحة، لكنها كانت تجد مقاومة وإعراضاً، ولم تكن قادرة على إزاحة أو تغيير المؤسسات والمنظومات التقليدية التي ترسخت وتطورت مصاحبة للثورة الصناعية. والحال أن العالم يعيش صدمة عميقة لم يفق منها بعد، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية تتوالى التشكلات الاقتصادية والاجتماعية في مسار جديد يختلف عما قبل الحرب اختلافاً عميقاً، ولو تأملنا على نحو تذكري وسريع في العالم الجديد المتشكل، سوف نلاحظ أننا نعيش في مرحلة جديدة، يصلح لها وصف «صدمة المستقبل» الذي أطلقه المفكر الأميركي ألفين توفلر (1928 – 2016) عام 1970، ثم وصف «الموجة الثالثة» للتحولات، والتي تشبه الموجتين الأكثر تأثيراً وعمقاً في تاريخ الإنسانية، وهما الزراعة ثم الصناعة.
بدت العولمة واحدة من أهم تشكلات واتجاهات الموجة الثالثة، وتحول العالم- كما يقال- إلى قرية واحدة متداخلة، لكن يبدو أن العولمة في بعدها المادي والممكن، لم تكن قادرة على تغيير عقول ومصالح كثير من الدول والشركات والمصالح والطبقات، كما أنشأت بطبيعة الحال صدمة اجتماعية ونفسية عميقة، وبقدر ما أسهمت العولمة في تغيير الاتجاهات والأنظمة السياسية والاقتصادية، فإنها أيضاً أنشأت ردّات فعل عميقة وقوية، إذ لجأت أمم وجماعات ومصالح كثيرة إلى اليمين القومي والأصوليات الدينية، لتواجه التهديد الذي تشعر به أو لتحمي نفسها من الموجة الثالثة. وهكذا فإن كورونا تعزز اتجاهين أنتجتهما العولمة والشبكية، وهما البعث اليميني والأصولي، والنزوع إلى الفردية في الحياة والفكر والعمل.
العالم يمضي تحت تأثير وباء كورونا، وربما إلى الأبد، في اتجاهات للحذر من الاختلاط ولتقليل التجمع والازدحام والسفر، والاستغناء ما أمكن بالتكنولوجيا والعمل والتعليم والتسوق من بعد، وهي اتجاهات وسياسات وإن كانت تجري كردّ مباشر على احتمالات ومخاوف تفشي الوباء بين الناس، فإنها تؤسس سياسيا لاتجاهات اليمين واليسار والابتعاد عن الوسط الذي ظل سائداً ومهيمناً على الفلسفة والفكر والسياسة قروناً طويلة، وتعزز ثقافياً واجتماعياً قيم الفردية، والتي دأبت الأمم والحضارات على حصارها واستبعادها وعدم الاعتراف بها إلا على سبيل الضرورة ومع الكراهية الشديدة، برغم أنها نزعة إنسانية أصيلة وعميقة.
لكن في انكفاء الأمم على نفسها وحدودها، والإنسان في فرديته، يتشكل عالم جديد، وكذلك أسلوب حياة جديد ومختلف، إذ سوف تتعزز وتترسخ استخدامات وتطبيقات الثورة الصناعية الرابعة في التعليم والمؤسسات والأعمال لأجل الاستغناء عن السفر والتجمع، هكذا سوف يتعلم التلاميذ والطلاب من خلال الشبكة ويتواصلون مع مدارسهم وجامعاتهم من خلال الشبكة، وسوف تؤدي كثير من الأعمال من بعد من خلال الشبكة، وسوف تنمو بالطبع عمليات التوصيل والإمداد والتسوق من خلال الشبكة والروبوتات والأجهزة والسيارات والطائرات المسيرة، وفي ذلك تتغير الأعمال والمهن والأدوار أيضاً، فلا بد أن عمليات ومهن التعليم والإرشاد الأكاديمي والتربوي سوف تتكيف مع متطلبات التعليم الشبكي، وسوف تنشأ تطبيقات وبدائل وأدوار جديدة للمدارس والأحياء والأسر لتلبية احتياجات الترفيه واللعب والأعمال الجماعية والإبداعية والتواصل والصداقة والتعارف والعلاقات المهنية والاجتماعية، وتتغير أيضاً طبيعة البيوت والمدن لتلائم الحياة والأعمال الجديدة.
وتتحول الفردية إلى فضيلة، ويتحول الفرد إلى كائن فاعل في الحياة العامة، لأنه سوف يكون شريكاً أساسياً للدول والمجتمعات في التعليم والعمل وبديلاً للمؤسسات التعليمية والتنظيمية، وتصعد بالطبع قيم وثقافات الخصوصية والتعلم الذاتي، والإنسان الذي يراهن على عقله وروحه، والذي يستمد أهميته من ذاته وليس من خارجها، ولا يعود العمل يمنح المعنى للإنسان، ولكن يستمد وجوده من دوره الأساسي في الحياة في الارتقاء بنفسه وتعليم أبنائه وذويه، وتأهيل نفسه وأسرته للحياة وتحدياتها في مسار وعمل مستقلين عن الدول والمجتمعات، لن تعود المدارس والجامعات تهيئ الإنسان فقط لما تريده الأسواق والأعمال، ولكن لما يحب أن يكون عليه الإنسان وما يجب أن يعمله ليكون ما يحب.
*كاتب وباحث أردني