لقد أحدث بيل جيتس هزة في قمة دافوس الأخيرة التي عقدت الشهر الماضي بدعوته إلى ما أسماه بـ"الرأسمالية الخلاقة". وفيما قاله "جيتس" فإن للرأسمالية يعود فضل مجموعة الابتكارات العظيمة العملاقة التي أسهمت في تحسين مستوى حياة مليارات البشر، وإن من الواجب تحسين طاقة الرأسمالية هذه، بما يساعد في تحقيق الفائدة العامة للبشرية جمعاء، بإجراء تعديلات أفضل على النظام الرأسمالي. إنني أنظر إلى الرأسمالية التقليدية باعتبارها بنية لم يكتمل نموها بعد، لكونها تتجاهل إنسانيتنا جميعاً. فمما لا شك فيه أن تكوين الثروات هو جزء أصيل لا يتجزأ من طبيعة النفس البشرية، إلا أنه ليس البعد الوحيد فينا. وعليه من الواجب الأخذ بمجموعة العوامل والعناصر الإنسانية الأخرى مثل الاهتمام بالآخر وحبه والتعاطف معه، أي النظر إلى الإنسان في كليته عند بناء الأطر أو النظم الاقتصادية. ومن زاوية النظر هذه إلى العملية الاقتصادية، لا ريب إذاً في أن العنصر المفقود في لغز التنمية العالمية هذه، هو الاستثمار الاجتماعي. وأول ما يجب قوله هنا إن الاستثمار الاجتماعي ليس عملاً خيرياً كما قد يساء فهمه لدى البعض. بل الذي أعنيه بهذا التعبير ذلك النوع من الشركات الاستثمارية غير القابلة للخسارة ولا لتوزيع الأرباح، وأن هدفها ذو طابع اجتماعي. وبهذه الصفة تهدف الشركة إلى رفع مستوى التأثير الإيجابي على المجتمع ككل، في ذات الوقت الذي تحقق فيه ما يكفي من العائدات لتغطية تكلفتها. وفيما لو تحسن مستوى أدائها، فربما تتمكن من تحقيق فائض مالي يمكنها من تنمية استثماراتها. وفي مثل هذه الشركة، فإنه ليس وارداً أن يسعى المالك للحصول على أي نسبة من الأرباح لصالحه. وعلى نحو ما تثبت لنا يومياً تجارب العديد من القادة الدينيين والدعاة وكذلك تجارب الناشطين الاجتماعيين والعاملين في مجال العمل الخيري، فإن المال لم يكن يوماً قوة دافعة وحيدة للمجتمعات. وربما تخصصت فئات اجتماعية بعينها في عملية جمع الثروات وتراكمها، إلا أن حب الخير والرغبة في مساعدة الآخرين هما نزعتان إنسانيتان أصيلتان لا تكاد تخلو منهما أي نفس بشرية، في كافة الأمم والمجتمعات وفي شتى مراحل تاريخ المجتمع البشري. والحال هكذا، فما الذي نأخذه من عيوب على الرأسمالية التقليدية إذن؟ الإجابة المباشرة، هي أن هذا النمط من الرأسمالية لا يعول كثيراً على النزعة الإنسانية هذه، وهو ما يحد من قيمة النتائج التي تحققها بسبب اختزالها لطبيعة النفس البشرية، على افتراض أن جميع البشر أحاديي الجانب والتكوين، وليس لهم من دافع أو هم سوى تكديس الأموال والثروات. ولتحري الموضوعية، فإن من الواجب القول إن الرأسمالية ظلت ولفترة طويلة من الوقت مصدراً للازدهار الاقتصادي، وقوة دافعة للنهضة الصناعية والابتكار التكنولوجي والتقدم الاجتماعي في بلدان أميركا الشمالية وأوروبا الغربية. لكن وفي مقابل ارتفاع مستويات حياة الأمم في تلك البلدان، فقد تخلفت معيشة أمم كثيرة أخرى تعيش في مختلف أنحاء المعمورة عن ذلك الركب. وفي حين ساهمت الأسواق الحرة في تحسين مستوى حياة الكثيرين، وحققت لهم مكاسب اقتصادية واجتماعية لا يستهان بها، إلا أنها تجاهلت معاناة الكثيرين في دول وشعوب أخرى، لاسيما فقراء العالم. لكن ومع ذلك فقد بذلت جهود كبيرة خلال العقود الأخيرة في سبيل تطوير الوسائل والأدوات الاقتصادية اللازمة لتحسين قوى وطاقات النظام الرأسمالي، بغية تمكينه من تحسين حياة من تخلفوا عن ركبه.. وما أكثرهم! وضمن تطوير هذه الأدوات، لك أن تأخذ بتطبيق تجربة الائتمانات الصغيرة التي تحولت إلى أداة ناجعة في مكافحة الفقر، وذلك بمساعدة الفقراء أنفسهم على تغيير حياتهم وتحسين ظروف معيشة عائلاتهم هنا في بنجلاديش. فمن خلال هذه القروض المالية الصغيرة الخالية من الفائدة تماماً، تمكن المقترضون، ومعظمهم من النساء، من حفز نزعة إدارة العمل والاستثمار الكامنة فيهم أصلاً. وما الائتمانات الصغيرة هذه سوى مثال واحد فحسب على قدرة الاستثمار المذهلة على التخفيف من وطأة الفقر، ما أن يتم تجاوز الفكرة التقليدية العقيمة القائلة إن الاستثمار بحكم طبيعته إنما هو موجه في الأساس لتكديس المزيد من الأرباح والثروات لمالك العمل. وهذا ما يدفعنا إلى دعوة الاستثمار الاجتماعي لإضفاء الوجه الإنساني على النظام الرأسمالي. وكذلك هو السبيل الوحيد والمضمون لتلبية الحاجات الاجتماعية والاقتصادية التي إما تم تجاهلها بالكامل أو لبّيت على نحو مختل وناقص من خلال جهود العمل الخيري ومؤسسات الرعاية الاجتماعية وغيرها من المؤسسات العاملة في ظل النظام الرأسمالي. ومن مزايا الاستثمار الاجتماعي أنه يصمم خصيصاً لمساعدة الأفراد على دعم حياتهم إلى جانب تحقيق أقصى حد ممكن من العائدات الاجتماعية لأفراد المجتمع ككل، كأن يعالج المرضى، وتبنى منازل الأسر، وتمدد مزايا الضمان الصحي بحيث تشمل الأفراد الذين لم يسبق لهم التمتع بضمان كهذا من قبل. وفي حين لا يمكن نفي حاجة هذا النشاط الاستثماري لتحقيق الأرباح إن كان له أن يستمر، شأنه في ذلك شأن أي استثمار عادي، إلا أن هدفه الأساسي هو مدى عمق الأثر الاجتماعي الذي يحدثه، وليس حجم الأرباح المالية التي يجنيها، مثلما هو حال الاستثمار الاقتصادي التقليدي. وفي وسعنا إطلاق صفة الاستثمار الاجتماعي الهادف لمضاعفة الأرباح، على هذا النوع من الاستثمارات الربحية المملوكة للفقراء، والتي ينهض بنك جرامين مثالاً عملياً وملموساً لها. فالميزة أنه استثمار اجتماعي مملوك للفقراء المدينين له -بحكم حصولهم على قروض محدودة منه- إلا أنه وفي الوقت نفسه يوجه نشاطه كله لصالح تحسين أوضاع هؤلاء المالكين ورفع مستوى معيشتهم. محمد يونس حائز على جائزة نوبل للسلام في عام 2006 ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"