السلطة السياسية اختُرعت أساساً نتيجة لخوف الإنسان وبحثه عن الأمن، ونتج عن ذلك أن ادعت فئة من البشر بأن لديها القدرة على تحقيق الأمن للآخرين في مقابل أن يقوم الآخرون بطاعتها. ومنذ تلك الأزمات السحيقة برزت ظاهرة السلطة السياسية التي تعتبر مهمة وأساسية في حياة المجتمعات البشرية كافة. وفي واقع الأمر يخيم لبس شديد على طبيعة ممارسة الدولة لسلطتها السياسية، ولكن بتطور المفهوم أصبحت سلطة الدولة تعلو فوق كل سلطة أخرى في داخل حدودها. لذلك فإن السلطة السياسية هي حجر الأساس بالنسبة للدولة وما يتواجد بها من مؤسسات، ومن دون وجودها لا توجد الدولة. وعليه فإن الحياة السياسية برمتها تتركز حول مُركب من العناصر المادية والمعنوية يسمى بالسلطة السياسية. عالم السياسة الشهير "بيردو" يُعرف السلطة السياسية بأنها قوة في خدمة فكرة، وبأنها قوة تتولد من الوعي الاجتماعي، وتلك القوة تتجه نحو قيادة المجموع للبحث عن الصالح العام المشترك، وهي قادرة على أن تفرض على أعضاء الجماعة ما تأمر به. من هذا التعريف المختصر يتضح وجود عنصرين للسلطة هما القوة والفكرة، ويرى "بيردو" بأن السلطة ليست قوة خارجية توضع في خدمة الفكرة فقط، ولكنها هي ذاتها قوة ذات فكرة. وذلك الطرح يقودنا إلى القول بأن السلطة السياسية لا تتمثل في القوة المادية وحدها لأنها ليست تسلطاً مادياً قاهراً، وكل تحليل رصين لها لابد وأن ينتهي إلى اعتبارها مركباً معقداً لا تقتصر على القوة المادية فقط. لذلك فإن الخضوع للسلطة السياسية وإطاعة أوامرها لا يمكن أن يكون نابعاً بشكل دائم ومستمر من الخوف من القوة المادية للحائزين على السلطة، وإلا كان معنى ذلك أن السلطة تحتاج إلى وضع حراسة على جميع أفراد الشعب لكي تطاع. حقيقة السلطة تكمن في اعتقاد المحكومين أكثر من كونها متمثلة في إرادة الحاكمين، بمعنى أن حقيقة السلطة تتمثل في اعتقاد واقتناع المحكومين بأنها هي التي توفر لهم في مجموعهم ما يحتاجون إليه من أمن مادي ومعنوي، فإذا ما تحولت إلى نوع من القهر المادي فقط فإنها تدل على عدم استقرار الدولة واهتزاز المجتمع. عالم الاجتماع السياسي الشهير "ماكس فيبر" يزودنا بتحليل مبدئي لأصول السلطة السياسية، ويميز بين ثلاث طرق لوجودها: النمط الأول يعتمد على الرجوع إلى قدسية وطهارة الموروثات القديمة، فيقول إنه في السلطة التقليدية ينظر الجميع للأوضاع القائمة على أنها أمور مقدسة وأزلية ولا يمكن انتهاك حرمتها، ويستمد الفرد الحاكم أو النخبة الحاكمة سلطتهم عن طريق التفويض الإلهي، ويخضع المواطنون للنخبة السياسية عن طريق الاعتماد الشخصي على رئيس تلك النخبة وعن طريق تقليد الولاء، ويتم تعزيز ذلك بواسطة المعتقدات الثقافية. أما النمط الثاني، فهو السلطة الكاريزمية، وفي هذا الحال يطاع القادة لأنهم يلهبون حماس اتباعهم الذين ينظرون إلى أولئك القادة على أنهم أصحاب مميزات استثنائية، مما يعطي القادة رصيداً شعبياً ضخماً، بالنسبة لـ"ماكس فيبر" تعتبر الكاريزما ميزة ليست أساسية أو جوهرية للقائد، بل هي تحدث نوعاً من العلاقة بين القادة والأتباع. أما النمط الثالث للسلطة السياسية في فكر "ماكس فيبر" فيسمى بالعقلاني - الرشيد legal-rational. وهذه القاعدة تقوم على عكس قيام قاعدة السلطة الكاريزمية حيث أنها تعني أن الطاعة ليست واجبة لشخص واحد ولنخبة سياسية متماسكة، بل لمجموعة من المبادئ الراسخة التي يعتقد بها المجتمع ويؤمنون بها، بمعنى أنها واجبة لحكومة القوانين. لذلك فإن البشر المنضوين تحت تنظيم معين يطيعون الأوامر القانونية من رؤسائهم بغض النظر عن شخصية الرؤساء. ويستشف من ذلك أن "ماكس فيبر" يعتقد بأن السلطة القانونية - الرشيدة تسير لكي تصبح مهيمنة في المجتمع الحديث، وخير مثال على التنظيمات القائمة على السلطة العقلانية - الرشيدة هو البيروقراطيات الحديثة، فالبشر لا يطيعون القوانين بسبب الخوف وحده فقط أو نتيجة للتقليد أو الولاء، ولكنهم يطيعونها بسبب شعورهم بأن القانون والنظام أمور ضرورية جديرة بالاحترام في مجتمع عقلاني - رشيد. ويلاحظ بأن هذه المرحلة من نظرة المواطن إلى السلطة السياسية لم تصل لها معظم المجتمعات في البلاد العربية، ولازال العديد منها يبحث لنفسه عن مخارج وطرق توصله إلى ذلك، ولكن حتى الآن يحدث ذلك دون جدوى حقيقية.