ألقى الرئيس الأميركي باراك أوباما قبل بضعة أشهر خطاباً تاريخياً من جامعة القاهرة سعى فيه إلى إعادة تعريف العلاقات بين أميركا والعالم الإسلامي... وأود هنا أن أرد على هذا الخطاب. لقد نشر صموئيل هنتنغتون قبل ست عشرة سنة مقالاً يقترح فيه أنه بعد الحرب الباردة تصبح الحضارات والأديان والثقافات السمة المميزة للعلاقات الدولية وتشكّل السبب الأوّل للنزاعات بين الشعوب وفي علاقاتها الداخلية أيضاً. وتعد مقولة "صدام الحضارات" نفسها، بالنسبة لي، ذات نتيجة عكسية، فأنا لا أومن أن الحضارات غير متناغمة بشكل فطري، أو أنها عُرضة للنزاع عندما تتفاعل. إلا أن تحذير هنتنغتون حول خطوط الانقسام الجديدة لفترة ما بعد الحرب الباردة واضطرابات محتملة خلالها، ليس بالتذكير الاعتيادي التافه. فالسياسات الحديثة تحفل بقضايا تتعلق بالحضارة، ومن المؤكد أن تحذير هنتنغتون له علاقة كذلك بإندونيسيا. في السنوات المضطربة التي تَبِعَت الاستقلال، عانت إندونيسيا من تهديدات انفصالية ونزاعات عقائدية وعرقية وحركات تمرد إسلامية. لكننا تغلبنا على هذه التحديات، بل تكيّفنا معها، وبدلاً من أن نفشل، حققنا نمواً وازدهاراً ملحوظين. أومن أن باستطاعتنا أن نتغير بشكل أساسي، وأن نتطور كما تتطور الحضارات والأديان والثقافات وتتفاعل. ليست هذه فكرة طوباوية؛ بل هي رؤية براجماتية عملية إلى أقصى حد. لقد شهدتها واقعاً عملياً. والسؤال هو: هل نستطيع تطبيقها على نطاق عالمي؟ اسمحوا لي أن أضع أمامكم تسعة شروط إلزامية لتحقيق التناغم بين الحضارات: أول هذه الشروط الإلزامية جعل القرن الحادي والعشرين قرن القوة الرقيقة. فقد شهِدْنا في القرن العشرين القوة الصلبة على شكل حروب ساخنة وحرب باردة طويلة عرّضتنا لمخاطر محرقة نووية، حيث تذهب التقديرات إلى أن حوالي 180 مليون شخص قُتِلوا في الحروب خلال القرن الماضي. إلا أن هناك عجزا كبيرا في القوة الرقيقة يتوجب على حضارات العالم أن تملأه. كانت الحضارة الإسلامية في القرن الثالث عشر هي الأكثر تقدماً في العالم لأنها كانت تملك عَطَشاً هائلاً للمعرفة. ثم استُخدِم هذا الجسم الكبير من المعرفة العلمية من العالم الإسلامي فيما بعد خلال عصر النهضة الغربية. لقد بنت الحضارات على معارف بعضها بعضاً، وأغنَت الحضارات بعضها بعضاً كذلك. الشرط الإلزامي الثاني هو تكثيف الحوار العالمي والامتداد إلى سائر أنحاء الأرض. لقد شهدْنا العديد من المبادرات. وفي عام 2001 بدأت الأمم المتحدة حوار الحضارات، وأطلقت إسبانيا وتركيا بعد ذلك تحالف الحضارات. وعقدت المملكة العربية السعودية مؤخراً مؤتمر الأديان في الأمم المتحدة. يتوجب علينا تعميق نوعية هذه الحوارات حتى تنتج أعمالاً محددة وتذهب إلى ما وراء الحوارات بين المعتدلين ذوي العقليات المتشابهة. الشرط الإلزامي الثالث هو الحاجة لإيجاد حل للنزاعات السياسية التي تدق إسفيناً بين العالمين الغربي والإسلامي. تواجه اليوم دولتان من كل ثلاثة دول مسلمة نزاعاً أو تهديداً كبيراً بالنزاع. بالمقابل لا تواجه سوى دولة واحدة من كل أربع من الدول غير المسلمة تحدّيات مماثلة. إلا أنه رغم هذه الأوضاع النزاعية بالغة التعقيد، يتوجّب على المسلمين أن يميزوا بين النزاع الذي يتعلق بالمسلمين و"الحرب ضد الإسلام". الشرط الإلزامي الرابع هو تقوية أصوات الاعتدال في مجتمعاتنا، إذ يتوجب علينا تمكين المعتدلين، ويتوجب على هؤلاء أن يرفعوا أصواتهم ويدافعوا عن قيم التيار الرئيس التي يتبعونها في وجه المعارضة من قِبَل المتطرفين. الشرط الإلزامي الخامس هو التعدّدية الثقافية والتسامح. ففي ضوء هذا الشرط ينبغي لنا جميعاً أن نعمل معاً على ضمان أن يصبح تعدد الثقافات والتسامح والاعتراف معايير عالمية. إلا أن التسامح يعني الاحترام الكامل للآخرين وقبول الفروقات، بصدق وإخلاص، والازدهار ضمن التنوع المتبادل. لا يمكن لغير هذا النوع من التسامح أن يُشفي الحقد والازدراء المتجذرين. الشرط الإلزامي السادس هو أن نجعل العولمة تعمل لصالح الجميع؛ فلا يمكن أن يكون هناك تناغم حقيقي بين الحضارات طالما أن غالبية مسلمي العالم، البالغ عددهم 1,3 مليار نسمة، يشعرون بالتهميش وافتقاد الأمان والسلام. الشرط الإلزامي السابع هو إصلاح الحاكمية العالمية. ففي الوقت الذي تعتبر فيه مجموعة العشرين الكبار أكثر تمثيلاً لديناميات الحاضر العالمي، ما زال مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يعكس توازن القوى لعام 1945 وليس لعام 2009. لذلك يحتاج المجلس لإعادة هيكلية كي يبقى معبراً عن الوقائع الجغرافية والسياسية لعصرنا الحاضر. الشرط الإلزامي الثامن هو التعليم. ويتغاضى السياسيون أحياناً عن الفرص التعليمية في كل من بيوتنا وحجراتنا الصفّية. لكن الإجابات تكمن هناك. تلك هي ساحات المعركة الحقيقية من أجل قلوب وعقول الأجيال القادمة. يتوجب علينا تحويل الجهل في هذه الأماكن إلى تعاطف وحنان، وتحويل عدم التسامح إلى احترام. أما الشرط الإلزامي التاسع فهو الضمير العالمي. هذا ما شاهدته في أتشيه بعد مأساة عام 2004 عندما قتل إعصار تسونامي الهائل 200 ألف شخص خلال نصف ساعة فقط. كانت الأمة كلها حزينة. لكننا وجدنا في تلك المأساة نوعاً من الإنسانية. بكى العالم كله معنا ومد يد المساعدة. عمل متطوعون من كافة أنحاء العالم يداً بيد لمساعدة سكّان أتشيه. أدركْتُ أن هناك ضميراً عالمياً. تكلم الرئيس أوباما في القاهرة عن "بداية جديدة" بين أميركا والعالم الإسلامي. واليوم أقول أن بإمكاننا إعادة اكتشاف عالم جديد ليس من الإخضاع وإنما من التواصل. سوف يكون عالماً لا يعرّفه صِدام الحضارات وإنما تجمّع الحضارات. سوف يكون عالماً تحدّده الوفرة وليس الفقر. وسوف يكون إمبراطورية واسعة من العقول العالمية تكسر قروناً من التصادم والعداوات. سوسيلو بامبانغ يودويونو رئيس إندونيسيا