شهدت الكرة الأرضية، كسنة من سنن الخالق في كونه، أحداثاً جساماً غيرت من شكل الخريطة الطبيعية والنوعية لأمم ودول كثيرة، نالت من شعوب وأجناس وألسنة وحضارات، فتلاشت دول وظهرت أخرى، وتولدت صراعات ونزاعات بين دولٍ، وشهدت أخرى نزاعات وصراعات داخلية نخرت في جسدها كالسرطان، كما تقدمت أخرى ونالت ما تستحق بين الأمم المتحضرة. وأمام هذا المشهد الذي لا يكف عن الحركة والتغيير، كانت الإمارات التي استطاعت تحت قيادة رشيدة خرجت من ترابها وجسدت شخصيتها أن تجمع وتوحد وتنطلق للأمام، فنالت بهذا احترام القاصي والداني، وكان للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله الفضل كما السبق أن يُظهر الإمارات في ثوب جديد دعامته الوحدة وقواعده الإنجازات في إطار من المحبة والتكاتف والتلاحم بين الأمة. وكان المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ، الأب الروحي والقائد السياسي الذي أعاد للإمارات الروح لتحتل مكانة طيبة بين الأمم ولتعد نقطة مضيئة على الخريطة العالمية، وتحولت الإمارات بفضل الله تعالى ثم إنجازاته وإنجازات أبنائه إلى نقطة لتواصل الشعوب وتقابل الحضارات وتسامح الأديان ونموذج لسيادة القانون والمساواة وتمكين المرأة. وتحولت الإمارات في عقود قليلة إلى شريان حياتي لدول العالم المختلفة. ومن هذا وعلى هذا، فأنا كمواطن إماراتي أمتهن الدبلوماسية عملاً، قلق، نعم إن القلق مطلوب كدافع، حتى نحافظ على ما أنجزنا وعامل محفز حتى نرفع من جودته وكمه، ولكن قلقي يزداد عندما يتحول إلى خوف، نعم قلق ممزوج بخوف على إنجازات بلادي، وعلى كل ما استثمرناه على مدى الأربعة عقود الماضية. ما تم إنجازه في هذه الفترة القياسية، مقارنة بدول أخرى عديدة على الساحة الإقليمية والعالمية، يعتبر معجزة بكافة المعايير، فأنّ تنهض بمجموعة من الإمارات الصغيرة والمتفرقة وتتوحد في نموذج من أرقى النماذج القانونية التي عرفتها البشرية، وأن تعلو وترتقي إلى مصاف الدول الكبيرة والعتيدة، لهو إنجاز لا يُضاهى. ولكن قد يتساءل البعض، وهل هناك ما يستدعي هذا القلق، وأن يمزج هذا القلق بخوف، فأمورنا طيبة والحمد لله، والأوضاع مستقرة، ورؤية القيادة ثاقبة وعينها على المستقبل، والإنجازات في تقدم، والمواطن يلمس الإنجازات التي تعود عليه بالخير في كل عمل يتم على أرض الإمارات وخارجها. نعم، كل هذا صحيح، ويلمسه الجاحد قبل الشاكر، ولكن مع زيادة الإنجازات والتوسع يزداد أيضاً القلق. ففي ظل هذه النعم التي أنعم الله علينا بها، نجد أناساً يعشقون البحث عن نصف الكوب الفارغ، ورغم أن الإمارات كحالة ليست كوباً ذا حالتين، فإن القلق مدعاه أن هناك من يبذل جهداً للبحث عن النصف الفارغ من الكوب، بل ومحاولة إيجاده، وأن تلك المحاولات في حد ذاتها تعد سبباً للقلق، حيث ينكر مدعوها جميع الإنجازات، إما لقصور بالفكر أو عدم الإلمام الكافي بنظريات البيئة والمكان وتطور الإنسان وكيفية استخدام هذه العوامل للتقدم، وتحويلها من عوامل مقاومة إلى عوامل دفع للأمام، وهو ما تم بالفعل على أرض الإمارات. ونحن في تحليل الأسباب لا نفترض أي سبب من أسباب سوء النية للنيل من استقرار البلاد. قلقي ينبع من إحساس المواطن وهموم المثقف الذي يرى "ظلاميين" لا يرتدون إلا نظارات سوداء ولا يرون أين نحن الآن، وماذا لو لم ينعم المولى عز وجل علينا بقيادتنا التي وحدت الجغرافيا والتاريخ؟ وماذا لو ظللنا مجموعة من الإمارات الصغيرة المتفرقة التي يطمع فيها الطامعون من حولها؟ وماذا لو أنعم الله علينا بالخيرات والموارد ولم يتم إدارتها بقيادات رشيدة محبة لبلادها ومواطنيها؟ قلقي، أريده أن يكون أملاً يتحول إلى جرس يدق على أسماع العقلاء والمثقفين وأصحاب المهن المختلفة عامة، والدبلوماسيين خاصة الذين يمثلون الدولة ويعرفون عن كثب حجم إنجازاتها حتى يُطلعوا الآخرين عليها، والذين لديهم تعليمات صارمة لخدمة المواطن الإماراتي وتذليل العقبات والمشكلات أمامه أينما حل في أي بقعة من بقاع العالم، لأن يتوحدوا "عبر كافة الطرق المتاحة" للتصدي للظلاميين الذين يريدون بنا العودة للوراء. وأن العقلاء من أبناء هذا الوطن لن يحتاجوا لبذل جهد كبير لإظهار ما تم وما يتم عمله من إنجازات، فقط ألا نتخذ من السكوت منهجاً بحجة أن الأمور واضحة وأن مستوى معيشتنا لخير شاهد."وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين" ( 26 الذاريات). كما آمل أيضاً أن يتحول قلقي إلى دافع للاصطفاف حول القيادة والوقوف أمام كل من يشكك في إنجازات الوطن وقياداته والذود عن هذه المكتسبات بالسبل المشروعة والحوار العقلي والمنطقي بما يزيل اللبس ويوحد الصف حول قيادتنا الرشيدة. وهي دعوة لمزيد من الانفتاح لإظهار الحقائق، فلقد كانت وستظل حرية التعبير والكلام والكتابة أحد أهم مكتسبات أمتنا ودستورنا، وهو ما تؤكده القيادة في كل حدث وأمر، ولكننا ما ندعو إلا إلى الحق وإزالة الالتباس، والعمل بحزم. كما أنه لابد من تفسير الحقائق التي تساند القيادة في اتخاذ قراراتها وأن يلعب الإعلام بدوره البناء في التعريف بالتحديات التي تمر بها المنطقة، مما يتوجب اتخاذ قرارات صعبة قد لا يستوعبها الكثيرون، وهذه التحديات تحتم علينا وحدة الصف، والذي بسبب انعدامه فقدت كثير من الدول استقرارها وتهدد أمنها وتدهور اقتصادها، وهو ما حدا بالمسؤولين في بلادنا باتخاذ بعض الإجراءات الحازمة تجاه بعض الأفراد بالتحفظ عليهم بما تقتظيه متطلبات الأمن القومي للإمارات. وقد لا يتذكر الكثير منا الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الأميركية إبان حربها مع اليابان للحفاظ على أمنها الداخلي، والقرارات الصعبة بإحتجاز مواطنيها من أصول يابانية في معسكرات خاصة وذلك للحفاظ عليهم من أن يتم استغلالهم داخل الولايات المتحدة، وهي الدولة الديموقراطية، ولكنها رأت في هذا سبيلاً للحفاظ على تلك الديمقراطية وهؤلاء المواطنين والأمة الأميركية بأسرها. وها نحن نسمع بين الحين والآخر إقرار البرلمانات العالمية - وخاصة في الدول التي تتشدق بأنها معقل الديموقراطيات وحقوق الإنسان- لقوانين تجيز لحكوماتها التنصت ومتابعة المكالمات الشخصية للمواطنين ومراقبة رسائلهم الهاتفية النصية والإلكترونية بل وتمريرها لدول أخرى، وكل هذا بدافع الحفاظ على الأمن القومي لبلادهم. ومن هذا المنطلق يأتي دورنا كدبلوماسيين أن نبذل مزيداً من الجهد في إزالة اللبس وتوضيح الأمور للجميع بأن الحفاظ على الوطن يتطلب قيادة حازمة قادرة على اتخاذ القرارات التي لابد منها للحفاظ على أمنه وأمن أفراده. وليعلم الجميع أن قيادتنا لم تدخر جهداً في نهضة هذا الوطن وحماية ترابه والحفاظ على أمن وكرامة مواطنيه ومكتسباته، وحفظ الله الإمارات شعباً وحكومة. علي ناصر النعيمي سفير الإمارات لدى أستراليا ونيوزيلندا