يطرح أهل الدين على الناس مصطلحات يحددون مفاهيمها بأنفسهم، وهي المصطلحات التي تحتاج إعادة فهم، خاصة أنهم يربطونها بالمقدس الإسلامي، ويعممونها على عموم المسلمين، بحسبانها المفاهيم الواحدة الممكنة، وعادة ما يتم ربط هذه المفاهيم بمصالح السدنة السيادية كمصدر لمعرفة المقدس وتفسيره، ومن ثم تتحول لترتبط بالدين نفسه عبر تقادم الارتباط بينهما.
يقولون لنا إن نبي الإسلام تنبأ بانقسام المسلمين إلى ثلاث وسبعين فرقة، الناجي منها فرقة واحدة والباقون إلى النار. ورغم التجهيل في الحديث حول سمات أو مواصفات الفرقة الناجية، فإن سدنة الدين، أو من جانبهم حددوا هذا المصير في الدنيا. ويبدو لنا أن هذا الحديث كان رجع الصدى لما حدث في واقع المسلمين من انقسامات حادة، فرقتهم شيعاً ليس فقط في فهم حديث كهذا، ولكن في شؤون التعبد الطقسية ذاتها. ومع احتساب كل فرقة نفسها هي وحدها الناجية لأنها صحيح الدين فيما ترى، فيبدو أن كل الفرقاء قد أقروا هذا الحديث بغموضه حتى يقبل إسقاطات كل الفرق عليه.
لكنك مع التأريخ الإسلامي لابد أن تصيبك الدهشة وأنت تبحث عن الفرقة الناجية في نظر جمهور المسلمين وما يسمونه إجماعهم، لتجد أنها هي الفرقة التي حققت انتصارها عندما انتصرت لما يريده السلاطين من الدين، فحازت الوجاهة الاجتماعية على الناس والحصانة الكهانية، مع نفوذ يجد مكانه إلى جوار العرش دوماً.
بينما تحولت الفرق القليلة المعارضة إلى طوائف مهزومة حق عليها الكفر وأحياناً شنوا عليها الحروب الوخيمات في تاريخنا، إلى درجة أنه كان يتم استئصال المهزوم بالإبادة الجماعية، ولم يبق من هذه الفرق سوى الذكريات التاريخية، بعضها القليل بأحلامهم التاريخية من وجهة نظرهم كما المعتزلة مثلاً أو الشيعة الإمامية، وبعضها الذي فني، فقد تم تشويه فكره وحرق كتبه ولا نعلم عنه ما نعلمه إلا من مدونات كهنة السلطان ووجهة نظرهم. فأباد الأمويون آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء العباسيون فأبادوا الأمويين، وهكذا دواليك. وكل من تسنم العرش كان يعلم أنه سيصبح الفرقة الناجية، في الدنيا والآخرة.
ولكن تعالوا نفترض صحة هذا الحديث التامة المطلقة لنتأمله معاً، فنجده يفترض سؤالاً شديد الأهمية وهو: من الذي يقع على عاتقه عبء الحكم العادل للتحكيم بين الفرقاء لفرزهم وإصدار القرار الصواب لتحديد الفرقة الناجية؟.
أبداً لم يطرح أحدهم السؤال على نفسه، لأن جميعهم يرى نفسه وحده دون غيره الصواب المطلق، ولم يفترض أبداً لهذا الغير الحق في الاختلاف، لأنه لا يراه، ولأن الدين واحد أحد لا يمكن أن يكون رأيين لأنه سيكون بذلك دينين، وحتى يكون الرب واحداً والرأي واحداً والحاكم واحداً والفقيه واحداً لابد أن يكون الدين واحداً.
إن الحديث يفترض بداهة أن هناك فرقة خارج هذه الفرق المتقاتلة أو المختلفة أو السيدة والمقموعة، يفترض فرقة محايدة هي التي يمكن بحيادها أن نقوم بعملية الفرز والتصنيف والتقييم وإصدار الحكم.
بهذا الفهم التلقائي البسيط كان لابد أن يلمح الجميع تلك الفرقة المحايدة التي لا ينشغل بها أحد، ولا يهتم لأمرها أحد، لذلك لم يلمحها أحد. وإذا لجأنا إلى القرآن فلن نجد الأمر يقتصر على الفرز والتمييز بين الطائفتين المتقاتلين، إنما سيمتد إلى قتال إحدى الطائفتين عندما نكتشف أنها هي الباغية، وهو ما يشير مرة أخرى بوضوح إلى فرقة ثالثة هي المتلقي الحقيقي للخطاب النبوي والقرآني، تلك الفرقة المخفية في تاريخنا، والتي أناط بها القرآن الحكم بين الفرقاء ومقاتلة الباغي.
إن الفرقة التي أهملتها كل الفرق المتصارعة على السلطان، هي الناس، هي الشعب. الآية تحمّل الشعب مسؤولية حماية مصالحه وإدارة شؤونه، وتهيب به للوقوف في وجه رجال الدين الذين يمثلون المذاهب على ألوانها، والذين يقسمون الأمة فرقاً متقاتلة منذ فجر التاريخ الإسلامي، ولم يكن قتالهم مرة واحدة من أجل الناس، لأن الناس كانوا هم موضوع الاقتتال، كانوا هم الغنيمة، بدلاً من أن يكونوا الحكم العدل. فهم مجموع المواطنين الذين يشكلون الدولة والأمة، وهم حسب مفاهيم اليوم في النظام الديمقراطي من يشرعون لأنفسهم عبر مجلس نيابي منتخب من كل الملل والنحل والمذاهب والأعراق، هم الفرقة التي حكمت فأحسنت الحكم، بينما عندنا فإن أحداً لم يرها حتى تاريخه.