هل فعلاً نحن أسوياء؟ أشك في ذلك، ولم يدركني اليقين بعد، لأن المشهد الإنساني لا يغري كثيراً، ولا يبيت في الذاكرة ما يشي بذلك.
ما يحدث في العالم من توصيف ونعت وتصنيف يشير إلى أن هناك بذرة سوء لحقت بالفطرة، وتحولت العفوية إلى غشاوة تثير الفزع، وترفع حدة الجزع وتنهر العقل وتزجره كلما حاول أن يخرج من شرنقة الوهم، وكلما فكر في إزاحة الغبار عن ورقة الشجرة العملاقة في الضمير الإنساني.
لقد تطور البشر وازدهرت الآلة وكبرت واتسعت حدقتها وطالت عنان السماء ولكن ماذا بعد.
لم يزل هذا الكائن المؤدلج بفكرة أنا ومن بعدي الطوفان، يهيم في الوجود كأنه الطير الذي فقد السرب، وكأنه الوحش الذي تضور وتهور وانحدر إلى أسفل السافلين، وراح يخب ويكب جل قمامته في مزابل الجغرافيا لتصبح حياة الناس ليس أكثر من بحيرة تغفو على سطحها، حثالات كائن بشري تعسر طريقه ولم يستطع الوصول إلى النهر كي يغسل أدرانه وأوثانه وأحزانه وأشجانه وينظف ساحته من ملوثات الدهر ومنغصات الأنا.
لم يزل الإنسان يخوض الحروب لمجرد إحساسه بأن لونه لا يقابله لون الآخر أو أن عرقه لا يوازيه عرق الآخر، أو دينه هو ليس دين الآخر، أو حتى طائفته، أو حزبه أو فرقته، وكل ذلك يحمل الإنسان على شن الحروب الضارية، وإشعال البغضاء والشحناء ضد آخر، لا يريد له غير الفناء، والقضاء عليه قضاء مبرماً.
فيا ترى ما هي القوة البغيضة التي تثير كل هذه المشحونات المدمرة؟ ما هذا المخلب السام الذي ينغرس في الذات، والذي يجعلها دائماً في توجس من المختلف والمغاير؟ فلو تخيلنا أن إنساناً ما خرج إلى الشارع، وقد أخفى وجهه، ولن يبرز بطاقة هويته، ولم يتحدث بلغة معينة، وصادف إنساناً آخر، فهل سيعرف ذاك الشخص من هو هذا الإنسان، وما هي هويته أو عرقه أو دينه؟ بالطبع لا، فالمسألة متعلقة بذلك التصنيف وعندما تغيب الملامح المذكورة يغيب التصنيف لأن البشر، كما هم في الفطرة، أسوياء إلى أن تبرز التصنيفات، وإلى أن تشهر الأنا نعوتها العقيمة، فتبدأ العوائق تطل من بين جنبات هذه النعوت، وتبدأ العواقب تنشر أسلحتها الفتاكة، ويبدأ الإنسان يشعر بالفزع من المختلف، لأن الأنا لا تقبل بالاختلاف، بل تشعر بالتهديد من أي لون غير لونها، الأمر الذي يجعل من أفكار الاختلاف، كما هي العلاقة بين الزئبق وغيره من المعادن الأخرى.
ما الحل؟ تكمن الحقيقة في التخلص من الأنا، والولوج في نهر الـ«نحن».
مثل هذه المشاعر هي الأنهار التي تأخذنا إلى أشجار الاخضرار، ومنها تنمو في أرواحنا وتزدهر عطور الحب.
عندما تختفي الحواجز، وتصبح الأرض الوعرة، سهولاً تنمو فيها أعشاب الحب، وتنتفي الكراهية.