كل التفاصيل استرجعتها في لحظات بعد تلك الرسالة الإلكترونية التي وصلتني من صديقتي الثائرة دوماً، وعلى عكس ما اعتادت أن ترسله من استنكارات واحتجاجات على أوضاعنا العربية المتردية، أرسلت لي هذه المرة ملفا احتوى أغاني المقدمة والخاتمة لبرامج كرتونية فات على بعضها ما يقارب الثلاثة عقود كـ''ريمي'' و''فلونة'' و''هايدي'' و''جورجي'' و''عدنان ولينا'' و''الليث الأبيض'' و''بسمة وعبدو'' وغيرها، تسمرت ما يزيد على الساعة أفتح تلك الكليبات وأردد كلمات الأغاني، مستغربة من حفظي لها وإتقاني للحن· استعدت تفاصيل تلك الأيام التي كنت أنتظر فيها بث ''فلونة'' مثلا أو ''هايدي'' و''ريمي'' بلهفة، كيف كنا نجلس أنا وإخوتي كل يوم الرابعة عصراً، وقد ارتفع جهاز التلفزيون متراً عن سطح الأرض التي نتوسدها حباً، وقد مد أغلبنا قدميه إلى الأمام سانداً جسده على يديه التي تركها خلفه؛ وكيف كان الهدوء يلفنا والتركيز الذي لا نعرفه إطلاقا خلال اليوم إلا في تلك الدقائق، وكيف كنا نتابع الحلقات ولا شيء يستطيع أن يثنينا عن ذلك؛ وإن حدث وأن تعطل التلفزيون، لم أكن أتردد إطلاقا في اصطحاب إخوتي لمنزل جيراننا للمتابعة دون استئذان أمي، قناعة مني أن هذا حق لا يستدعي طلب الإذن للحصول عليه، حتى لو ضايق هذا الأمر الجيران أنفسهم! كانت سنوات خضراء نضرة ممزوجة بالبراءة والوحشية البكر، لم تعبث بها يد البشر بعد؛ حتى الشرور فيها كانت مضحكة تشبه مشاهد الشر في الأفلام العربية القديمة ''الابيض والأسود''؛ كل الأخطاء فيها كانت قابلة بالتأكيد للرقع بأوراق القصدير اللامعة، وكل المستقبل مغلف بالساتان الوردي بكل درجاته، وكل الممرات المتوقعة فيه مليئة بعبق البرتقال المنعش والفانيليا؛ سنوات خضراء متطرفة، لم نعرف فيها سوى الضحك بهستيرية·· أو البكاء بهستيرية أيضا· لم تخبرني صديقتي حتى الآن سبب هذا التحول الفجائي عن ذوقها الثائر المعروف -فقد غلب على رسائلها الإلكترونية فيما بعد صور لألعاب وحلويات كانت لا تفارقنا ونحن صغار في سنواتنا الخضراء ولم تعد متوفرة الآن- ولكني أعتقد أن سبب مزاجها المختلف، هو ثورة ''خضراء'' في وجه الأوضاع المتردية التي نعانيها، والتي أصبح الأمل الوحيد لنا -كي لا تتعفن نفوسنا جراءها- أن ننكش في أوراق تلك السنوات الخضراء، التي كنا فيها نفعل كل ما نريده غير مبالين بتبعاته· als.almenhaly@admedia.ae