نعود في البدء لفيلم «شحاتين ونُبلاء» الذي كتب قصته الكاتب المصري الفرنسي «البير قصيري» ومن إنتاج «يوسف شاهين» وإخراج أسماء البكري، المنتقلة من الأفلام الوثائقية للأفلام الروائية، وفيه نخبة من الممثلين الكبار «صلاح السعدني وعبدالعزيز مخيون ومحمود الجندي وأحمد آدم ومحمد هنيدي»، يُعد من الأفلام المميزة في مسيرة السينما العربية، ومنه نخرج لموضوعنا الذي يتتبع الشحاذين، وإن كانوا غير نُبلاء في العموم، لأنهم أيضاً هم ركبوا موجة الاتصالات الجديدة، واستفادوا من التكنولوجيا لتطوير أساليب الشحاذة، ولم يعد الشحاذ أو الطَلّاب وهي من فصيح دارجتنا، بحاجة ليكسر يده، ليشحذ عليها أو يسرح بكم رأس من الأطفال الأيتام، ليبكي عليهم، ويستدر عطف المارة.
اليوم.. بهاتفه النقال قادر أن يوسع من شبكته العنكبوتية ليمد خيوطها في الداخل، وخارج المياه الإقليمية، مستعيناً بالأزمات التي تلم بالبلدان فجأة، حيث يعدها من المكتسبات، فكم من هاتف أرّقنا أنصاف الليالي، لنسمع من الطرف الآخر من يبكي «سورِيّاه»، وما تعرضت له عائلته من فناء على أيدي مسلحين، فإذا بالكلام ليس بالشامي، ولا حتى من درعا أو الرقة، ولو فاجأته بسؤال يخص سوريا لغص بالكلام، ولم يجد إلا عبارات: الله يخليك، ويعيش أولادك، ويطول عمرك، وغيرها من مفردات قاموس الشحاذة.
تتعدد الانتماءات بتعدد معضلات البلدان، ونكبات الدول، وحدها ليبيا لم نسمع من ينتمي إليها من الشحاذين عابري القارات، حتى أنه في مرة من المرات، وبعد أن تعرضت بعض دولنا لزلزال، بدرجة خمس ريختر، ظهر علينا الشحاذون في مساء اليوم نفسه، والهزة الأرضية ما تزال لها توابعها، ولم تخمد تصدعات الطبقات بعد، فإذا بهم يندبون بيوتهم المتهدمة، وحظهم العاثر، ويتباكون على أبناء تحت الأنقاض، طبعاً.. هذا النوع من الشحاذين الذين يغتنمونها سانحة، ويضربونها ساخنة، لو سمع أنك تريد أن تتبرع ببطانية صوف أو كيس سكر، لسكر خط الهاتف في وجهك، والذي عادة يطلب رقمك، فتعتقد أنت ببراءتك أنه يمكن وراء هذا الخط الدولي شخص مهم أو فرصة عمل تجاري أو صديق باعدت بينكم البلاد، فتتبع فضولك وتتصل لتسمع منه الديباجة الابتزازية، وقبل موسم الحج، تتلقى مكالمات بعيدة تبدأ بصفرين، والجميع يريد أن يتوب على يديك، ويترحم على والديك، وأنه من غينيا بيساو، واسمه «أبو عمر الشيندو» وقد اهتدى، وعرف الحق، وبحاجة لثلاثة آلاف دولار ليرى مكة قبل أن ترمد عيناه، وهناك هواتف لا تعرف إلى أي بلد تتبع تبدأ بصفرين واثنين اثنين، هذا ما أن تسمع المخاطب في الطرف الثاني حتى يشعرك أنه «مُوَرّي كوَار ضو»، ويتدخن بشعر وشَبّه، والمسابيح تتدلى من رقبته، هذا المتستر بالشعوذة الدينية من بعيد، بعد البسملة والحوقلة والهلهلة، يناجيك ويكاد أن تخنقه العبرة، ويقول لك: «بالأمس حلمتك، وأنت تختال في حلة خضراء، تحفك ملائكة من نور، وطيور الجنة معالي رأسك، فنعم البشارة أخي، الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم شفيعك، ومناديك لحوض الكوثر»، فإن كنت تقياً فستنفحه بدولارات خُضر، لجمال البشارة، وإن أغلقت هاتفك، فسيتبعك تأنيب الضمير، وتقول في نفسك: ماذا لو كان صادقاً!
وقد جرّبت الشحاذة مرة، وكنا في ريعان الشباب متنكرين ومتأنقين في «مترو باريس» من باب المزاح، وتسلية النفس والآخرين، فلقينا مسبات من العجائز الفرنسيات اليمينيات باعتبارنا من المهاجرين الذين يشوهون وجه باريس التي كان يعشقها الكاتب المصري الفرنسي ذو الأصول السورية «البير قصيري» عاشق الكسل وساكن الفنادق، حيث عاش طوال حياته في غرفة رقم 58 في فندق «لا لويزيان» في «سان جيرمان دو بريه» منذ 1945 وحتى وفاته 2008، ودفن غير بعيد عن غرفته في مقبرة «مونبارناس».