لا يوجد قانون تقادم في حروب رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني الثقافية. وكريستيان جريكو، وهو عالم مصريات يبلغ من العمر 48 عاماً (من مدينة تورينو) هو أحدث الضحايا، إذ أُدين بمخالفةٍ عمرُها خمس سنوات. أما ذنبه، فهو أنه قدّم عرض «اثنين مقابل واحد» للمتحدثين باللغة العربية للدخول إلى متحف مصر القديمة، حيث كان مديراً منذ عام 2014. ومع اقتراب تاريخ تجديد عقده، أعاد خصومٌ محليون إحياء الشكوى، مما أطلق العنانَ لانتقادات شديدة من رئيسة الوزراء نفسها، إذ نددت بما قام به ووصفته بأنه «أيديولوجي وعنصري تجاه الإيطاليين»، بينما دعا حلفاؤها المحليون إلى الإطاحة به.
هذه الضجة تُظهر كيف أن «ميلوني» حريصة على الوفاء بالوعد الذي قطعته على نفسها خلال حملتها الانتخابية بالدفاع عن «الله والأمة والأسرة». وفي هذا الإطار، تعرض المهاجرون، وسهرات الشباب، ومقدمو البرامج التلفزيونية، والموسيقيون.. إلخ، لمحاولات تشويه السمعة بطريقة أو بأخرى من قبل الحكومة الأكثر يمينية في إيطاليا منذ الحرب العالمية الثانية. 
ويبدو أن العام الأول لحكومة ميلوني قد طغت عليه قصص الحروب الثقافية بدلاً من القضايا الأكثر إلحاحاً. والحال أنه ليس في إيطاليا اليوم قصة أكبر من ديونها المتراكمة. إذ يبدو أن الديون السيادية الإيطالية تتجه نحو الارتفاع بعد عامين من الانخفاض. فقد رفعت الحكومةُ العجز المالي المتوقع هذا العام من 4.5% إلى 5.3% من الناتج المحلي الإجمالي، وخفضت توقعات النمو إلى نسبة مذهلة هي 0.8% هذا العام، ما يمثّل عودةً إلى مسارها طويل المدى. كما زادت إيطاليا هذا الشهر من مبيعات السندات المخطط لها لعام 2023 بسبب تدهور الأحوال المالية والتأخير المسجل في تحويل أموال التعافي من الوباء من الاتحاد الأوروبي بسبب فشل الحكومة في تحقيق أهداف الإنفاق في الوقت المحدد. وهذه الزيادة ستؤدي إلى رفع الدين العام القياسي لروما البالغ 2.85 تريليون يورو (3 تريليونات دولار)، والذي قد يرتفع مرة أخرى العام المقبل مع التعثر في عمليات الخصخصة المخطط لها. 
وربما تظل توقعات النمو المنخفض مفرطةً في التفاؤل في بلد ما زال بحاجة إلى إصلاح هيكلي عميق. ذلك أن إيطاليا ما زالت الأكثر عرضةً وهشاشة إزاء خطر ركود عالمي أو انهيار لسوق السندات، رغم أن الوضع ليس بالسوء الذي كان عليه في عام 2011 حينما نُحي سيلفيو برلسكوني من منصب رئيس الوزراء لتفادي تهافت على بيع سندات الحكومة الإيطالية. غير أن هناك توتراً لدى المستثمرين. فإيطاليا تدفع للاقتراض أكثر مما تدفع اليونان. وقد وصل عائد السندات الإيطالية لأجل 10 سنوات، الأسبوع الماضي، إلى ما يناهز 5% للمرة الأولى منذ أزمة اليورو قبل عقد من الزمن، وتصنيفها الائتماني مطالَب بالخضوع لامتحان المراجعات من وكالتي «فيتش» و«ستاندرد آند بورز» خلال الشهر المقبل. والآفاق لا تبدو جيدة. 
وتقول وكالة «سكوب ريتينغز» إن عجز ميزانية إيطاليا المرتفع يعني أنها قد تفقد أهليتها للحصول على دعم السندات من البنك المركزي الأوروبي؛ لأن الامتثال للانضباط المالي الذي يفرضه الاتحاد الأوروبي ضروري حتى تستطيع الاستفادة من أداة البنك المركزي الأوروبي لمكافحة الأزمات («أداة الحماية من العدوى»). 
مؤسسة «يوتراند» لاستطلاعات الرأي لاحظت أن وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الرئيسية في إيطاليا أفردت صفحاتٍ أكثرَ للاحتجاج الحكومي على إعلان يُظهر آباء مطلّقين مما خصصته للتعليق على التوقعات بشأن الديون الجديدة. والحال أنه كان يجدر بالصحف أن تكشف أن إيطاليا هي الدولة الوحيدة التي تعارض إصلاح «آلية الاستقرار الأوروبي»، إذ تخشى ميلوني أن تصبح تلك الآلية وسيلةً لإجبار روما على إعادة هيكلة ديونها. وقد يحدث اصطدام حول هذا الموضوع، هذا الأسبوع، حين تقدّم إيطاليا خطةَ ميزانيتها السنوية إلى الاتحاد الأوروبي. ويذكر هنا أن ذلك سيحدث بعد عام وأسبوع من تولي ميلوني رئاسة الوزراء. وبالنظر إلى أن متوسط عمر الحكومات الإيطالية هو حوالي 13 شهراً، فإن هناك حديثاً منذ الآن عن إفساح ميلوني الطريق لحكومة تقنية معينة. 
والواقع أن الحروب الثقافية وسياسة اليمين المتشدد متلازمتان وتسيران جنباً إلى جنب، كما كتب الكاتب والمفكر الإيطالي الراحل أمبرتو إيكو في مقالة له بعنوان «الفاشية الأصلية». المقالة التي نشرت في مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» عام 1995 تستحق إعادة قراءة الآن، وخاصة في إيطاليا. وفيها كتب إيكو أن «عدم الثقة في العالم الفكري كان دائماً أحدَ أعراض الفاشية الأصلية». 
والواقع أن الفنانين يشكّلون أيضاً مصدر قلق للنخبة لأنهم غالباً ما يستشرفون التغيير بشكل أسرع وأبعد من الآخرين، بما في ذلك المستثمرون. وهذا يذكّرني بمسرحية هزلية من تأليف روبرتو بينيني، الكاتب الإيطالي الساخر الحائز على جائزة أوسكار. ففي كلمة له قبل خمس سنوات بالأكاديمية الأميركية في روما، حيث تسلم جائزة، حذّر بينيني من تصاعد الفاشية في إيطاليا. وقال مازحاً إن اليمين المتشدد الصاعد في إيطاليا سيرغب قريباً في التخلص من «المهاجرين، والأجانب، وسيرغب في نهاية المطاف في التخلص من الإيطاليين أيضاً». في تلك اللحظة، قهقهت النخبة الجالسة تحت النجوم والمطلة على «المدينة الخالدة» من واحدة من أكثر زواياها خصوصية وجمالا.. لكنهم لا يضحكون الآن. 
في تورينو، سعى جريكو، الذي ما زال يأمل في الاحتفاظ بوظيفته، على نحو حكيم إلى النأي بنفسه عن الصراع، عبر الإشارة إلى أن مديري المتاحف يأتون ويرحلون، لكن علم المصريات أثبت أنه خالد. وقد كان بإمكانه أن يقيم التشبيه نفسه بين الحكومات الإيطالية وإيطاليا أيضاً، مثلما قد تكتشف ميلوني قريباً.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»