يُؤْثَر عن سيغموند فرويد قولة يؤكد فيها مؤسس التّحليل النفسي أهمية الطّفولة ودورها الحاسم في شخصية الفرد. وهي مقولته «الطّفلُ أبُ الرجل». فبعْدَ أن تمّ اكتشافُ الطُّفولة، باعتبارها مرحلةً متميزةً من حياة الفرد، مع مفكّر عصر الأنوار جان جاك روسو في كتابه الشّهير «إميل أو التربية»، جاء فرويد يؤكد أهمية الطُّفولة في صنع المصير السيكولوجي للفرد، بحيث إن أي رجل، مهما بلغ من العمر عتياً، يسكنه طفل يقوده في حياته، وهذا الطفل هو صنيع البيئة الأولى التي عاش فيها. وإذا كان الشّاعر القديم يقول:
وينشأُ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوّده أبوه.
في إشارة إلى دور الطفولة في تشكيل حياة الفرد، فإن فرويد أكدّ حقيقتها العلمية انطلاقاً من أبحاثه السّريرية التي هدته إلى سرداب الطفولة حيث يتشكّل قدر الإنسان، ما دام هذا القدر، الذي هو الطّفل، يظل حياً يقظاً عاملاً، بِعُجَره وبُجَرِه، على توجيه سلوك الفرد، إيجاباً، أو سَلْباً وهو الغالب، لفشل الأسر عادة في تربية أطفالهم، وفشل البيئة في صنع طفولة سوية، وبالتالي في صنع رجولة راشدة أيضاً.
يقودنا هذا الحديث إلى فكرة أخرى لا تربط مصير الانسان بقدر طفولي سابق، بل تجعل هذهِ الطّفولة، التي لها دور كبير في حياة الانسان فعلاً، تتجدد باستمرار، ولا تثبُتُ على ماضٍ سلف، بل تتغذى وتَتجدّد بما يجعلها تغتني وتُسْهم في التّطور النّفسي والعقلي والعملي للفرد. 
إنّ الطفولة نعمة إلهية، وهي هبةُ الفطرة السّليمة التي لم يخالطها غبَشٌ من غفلةٍ أو تقليد، إنّها استعدادٌ محايدٌ نزّاع إلى التّلقّي المرح لجميع القيم الجميلة، قيم المحبّة والعطاء والرّحمة، والصّدق في الخطأ واللّعب، والسّؤال والتّسّامح والقلب المخْمُوم. إنّ قيم الطفولة من التّحدّيات الكبرى التي لا يحافظ عليها إلا من طابت سريرتُه، وغالَبَ قيم المكر والخداع والكراهية والعنف، وهي القيم السّلبية التي لا تلبث تلحُّ على القلب في الدخول لِمَا تُمنّي به صاحبها من وَهْمِ الحياةِ الأفْضل، ولا ينجو من هذا الشَّرَك إلا قلّة النّاس منَ الفلاسفة والشّعراء والعارفيِن بالله. 
الفلاسفة لأن منطلقهم الدّهشة والتّساؤل الدّائم عما هم فيه وعليه، ومع الدّهشة والسّؤال ينجلي غبش الرؤية، فيُجدّد الفيلسوف براءته الطّفولية في ذاته، فإذا بك ترى الفيلسوف، كلّما تقدم به العمر، يبدو كطفل صغير تعلو الحيرةُ ملامحَه وتنبجسُ التّساؤلات من عينيه. وإدغار موران الذي تعدّى المائة سنة اليوم، دليلٌ بارزٌ على ذلك.
طفولةُ الشُّعراء لا تكاد تخطئ الأعين، فهذا الصّنفُ من النّاس يعيش في عالم الصُّور، وتُحرِّرُهم الاستعاراتُ من ثقل الواقع المسؤول عن تشويه الطفولة الرّاقدة في كل فرد. فعالمُ الخيال البهيجِ كفيلٌ أن يفكّ عنهُمْ إصْرَهم والأغلال التي يثّاقل بها البشرُ عادة إلى أرض العنف والمكر والخديعة، لذلك لا تفتأ ترى الشاعرَ، عادة، إلاّ والطفولةُ تَشعّ من قسمات وجهه، وتَبْرقُ من ثنايا حروفه. ولعل مشاركته الفيلسوفَ الدهشةَ المستمرة والتساؤلَ الدائم من أسباب تجدّد هذه الطفولة فيه. 
وَالعارفُ بالله يَحْيَا بين التّخلية والتّحلية، فشُغْلُه هو القرب من ربّه، والمعرفةُ بالله نورٌ تدخل القلب فتطهّره، وتلابس السلوك فتُقيِمُه، لذلك كان أهل الغرّة بالله، في كل ملّة، أكثر النّاس بعداً عن الطّفولة، وكان أهل المعرفة بالله، من كل ملةّ، أكثر الناس تلبُّساً ببراءة الطفولة.
ليست الطُّفولةُ مرحلة ولّتْ ولم تُعقّب، إنَّها حالةٌ وجوديةٌ تُلابس الوجود البشري لمن يَسْطيعُ المحافظة على شُعلتها الوقَّادة في داخله، ليعيش البراءة إلى آخر رمق من حياته.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية