قد يُسْتغرب هذا العنوان في بادئ الرأي، إذ كيف تجتمع الطفولة والرشد؟ فالطفولة سنّ النّزق واللعب واللهو، إنها سن العاطفة والانفعال، أما الرشد فهو سن الأناة والحركة القاصدة والجد، إنه سن الإرادة والعقل. فهل يمكن للمتضادات أن تجتمع؟ 
لقد كنت دوماً مهموماً بهذا «الفيلسوف الصغير» الذي يدرج بيننا، وأرى في الطفل ملامح متعددة تعكس هذا المزيج العجيب في شخصه؛ بين شخص يغلبه الانفعال، وشخص كثير السؤال، وبينهما تتسع المسافة وقد تضيق، فأسئلة الطفل في عمقها أسئلة تمتح من أسرار الوجود، وإن كان يغلب عليها العفوية وتصدر عن تلقائية مدهشة، ولذلك نرى الطفل، وهو يلقي أسئلته، فاغراً فاه ينتظر أجوبة الراشدين عليها، لكن في الغالب ما تضيق عقول الراشدين وأخلاقهم عن متابعته؛ فالراشدون غير مهيئين لأسئلته الجريئة، ولا يملكون الأدوات المعرفية لشفاء شغفه إلى المعرفة، والراشدون أيضاً غير مهيئين للصبر على متابعته في حواره المبدع وتألقه في الاستشكالات، فيعمدون إلى إسكاته تارة، ويُلوّحون له بعصا التهديد، وقد يصمونه بالنعوت القبيحة التي تجعله يرتد إلى غبائه في استمراء التقبل والبعد عن النقد، تارة أخرى.
حرصاً على الطفل ورغبة في الحفاظ على شخصيته النقدية المستقلة تداعى كثير من الباحثين اليوم إلى رفع شعار «لنعلم الفلسفة للطفل»، وظهرت مؤسسات متخصصة في هذا المجال لتكوين الأطر التي تحمل مشعل تعليم الفلسفة للأطفال، ورفع كثير من المتخصصين في هذا المجال لواء الورشات التدريبية لصقل موهبة فلذات أكبادنا في السؤال وتعلميهم طرق الحجاج حتى لا تتسع عندهم روح التقبل، ويصبح النقد سلاحهم في مواجهة أعداء المعقول.
إعداد الأطفال فلسفياً هو إعداد للمستقبل هو تحصين العقول البريئة من لوثة الغلو. إعداد الأطفال فلسفياً هو شدّ عضد الأوطان بالعلم والحكمة. إعداد الأطفال فلسفياً هو إعداد فرسان القلم والفكر لنهضة بلدانهم ونشر ثقافتها الإنسانية في العالمين. إعداد الأطفال فلسفياً هو تخصيب بيئتنا الثقافية بثقافة السلم والتسامح والعيش المشترك القائم على الحوار والتعليل واحترام حرمة الاختلاف، إنها الفريضة التعليمية الغائبة، والعودة إليها عودة إلى الفضاء الفسيح الذي أثمرت فيه حضاراتنا الإسلامية أطيب الأفكار، وأخرجت فيه أجمل ما عندها في الفكر والذوق والسمت الحسن. 
والاهتمام بالأطفال واحترام شخوصهم، والدخول إلى عوالمهم من آداب القرآن الكريم كما في وصايا لقمان، وهي من أخلاق نبينا عليه السلام، كما في صحيح البخاري، فقد خدم أنس بن مالك، نبيّنا، عقداً من الزمن، فما تضجر منه قط، ولا عاتبه على فعل صنعه، أو على فعل تركه، احتراماً لشخصه، وتحريكاً لعقله أن يطغى عليه صوت صاخب أو وعيد جارف. وعندما مات النّغير، وهو عصفور صغير ، كان لأبي عمير، وهو أخ أنس بن مالك، كان الرسول يلاطفه ويدخل عالمه الحزين، ويقول له ملاطفاً متسائلاً {يا أبا عمير ما فعل النغير؟}. والدخول إلى عالم الأطفال بالاحترام والمشاركة العقلية والوجدانية من سمات التجربة الفلسفية التي ندعو إليها. 
إن الذي تشرق بدايته لاشك تشرق نهاياته، ولا يمكن لعقل أشرقت بدايته بالفلسفة والإيمان أن يقع في حبال التطرف أبداً، ولا أن يورد أمهته المهالك، وهو ينتصر للفضيلة العلمية والعملية، يتعلمها، ويعلمها. لذا نعتقد أن إنارة العقول بقبس الفلسفة والإيمان لن يضيء فقط جوانب الطفل البريء، بل سوف يضيء جوانب حضارة تستشرف مستقبلاً زاهراً رغم كل الظلام المنتشر في الآفاق. 

*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية