ما الذي لم يعجب أميركا من القضية الفلسطينية في هذه الفترة التي ترمي بسهامها الحادة تجاه كل شيء له علاقة بالقضية برمتها؟ منذ أول يوم من تولي ترامب الحكم في أميركا أراد استعجال حل القضية، وصرح باتجاه ضرورة وجود دولة فلسطينية مقابل الدولة الإسرائيلية، وهذا الأمر ليس بجديد، إنما المستحدث فيه هو بنفض غبار «الربيع العربي» عنه بعد أن طغا فعله الشائن على هذه القضية المحورية للأمة العربية والإسلامية وللمصلحة الغربية بشكل عام.
وبعد مرور قرابة عامين على رئاسة ترامب بدأت روائح «صفقة القرن» تزكم أنوف القادة والساسة في الغرب والشرق. فلم يعد الحديث ساري المفعول عن الدولة الفلسطينية، كما كان الوضع في أول يوم من رئاسة ترامب، بل زادت التسريبات عن تذويب جزء من هذه الدولة وطمرها في صحراء سيناء، وهي ممثلة في قطاع غزة، والجزء الآخر السعي إلى ضمها للأردن، وهو سيناريو نتمنَّى ألا يرى النور لأنه يفرغ العرب والمسلمين مما هو واجب عيني في أعناقهم لا تسقط عن كاهلهم إلا باسترجاع القدس إلى أحضانهم.
ولم تقف أميركا عند نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس الغربية، في تحد صارخ لكل القرارات الأممية التي صدرت لصالح القضية الفلسطينية والحل العادل في بناء الدولة الشرعية لها، بل ذهبت في الآونة الأخيرة إلى أبعد من ذلك، فلنستمع إلى صائب عريقات، وهو يوضح بعض الحقائق عن الوضع الجديد للقضية الفلسطينية برمتها وسط صمت مريب واستنكار مخنوق وشجب ممنوع لم نر له مثيلاً طوال السبعة عقود الماضية من عمر القضية المحورية التي بدأت تنفلت من أيدي الفلسطينيين أنفسهم قبل إخوانهم من العرب والمسلمين، فماذا يقول صائب عريقات، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عن هذا التحول الخطير في جوهر اهتمام العالم بفلسطين ودولتها الموعودة، فقد أشار عريقات إلى أنه لم يتم التشاور مع السلطة الفلسطينية بشأن أي مقترح أميركي للسلام، وأن الولايات المتحدة بدأت بالفعل بتنفيذ «صفقة القرن»، وأننا لم نفتعل معارك مع الولايات المتحدة، فهناك مخطط الآن لفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، وبناء عليه قد يقرر الرئيس عباس تعليق الاعتراف بإسرائيل.
وبعد هذا البوح الذي طال زمن كتمانه، لا نستطيع أن نقول إن الحديث عن «صفقة القرن» مجرد تكهنات أو ثرثرة مجالس الغيبة والنميمة السياسية.
فكل الإجراءات المتلاحقة التي تسارعت الإدارة الأميركية في اتخاذها تتجه نحو تصفية القضية الفلسطينية في وقت انشغال كل دولة عربية بشأنها الداخلي وبناء سياج أمني حول نفسها لعدم وصول رذاذ «الربيع العربي» للاقتراب من أسوارها.
فبعد إغلاق مقر البعثة الفلسطينية في واشنطن، قررت الإدارة الأميركية ترحيل السفير الفلسطيني لديها، حسام زملط، وعائلته وقررت الإدارة الأميركية أيضاً إغلاق الحسابات البنكية للسفير الفلسطيني، وألغت تأشيرات عائلته.
وليس هذا فحسب، بل إن الولايات المتحدة أوقفت مساعدات إضافية للفلسطينيين مخصصة لبرامج تدعم التوصل إلى حل للنزاع مع الإسرائيليين لتضاف إلى أكثر من 500 مليون دولار من اقتطاعات أخرى.
واستكمالا لإتمام تلك «الصفقة» المشبوهة، فقد كشف وزير الاستخبارات والمواصلات الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، عن خطة طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بشأن توطين اللاجئين الفلسطينيين في دول بالشرق الأوسط، وذكر «كاتس»، في تغريدة نشرها على حسابه في «تويتر»: «أرحب بمبادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في الأردن وسوريا ولبنان والعراق»، وذلك دون شرح أي تفاصيل أخرى للمبادرة.
فلسطين الآن أمام أكبر تحد منذ تاريخ اغتصابها من قبل إسرائيل في وضح النهار على مشهد من العالم الذي دغدغ مشاعر أصحاب الحق الشرعي لعقود يراد أن تذهب سُدى. وقد أقر بعض المحللين الغربيين مثل هذه الحقائق السياسية، كما هي ترسم على أرض الواقع، فهذا فريدمان يكتب أن الإسرائيليين والفلسطينيين يقتربون أكثر فأكثر من نقطة إخفاق تام، مع وجود احتمال حقيقي بأن تنهار الإدارة الفلسطينية. ويرى أنه سيتعيَّن على إسرائيل أن تتولى كامل المسؤولية عن صحة وتعليم ورفاهية 2.5 مليون فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية إذا حدث ذلك.
وشدد الملك عبدالله الثاني خلال لقائه في نيويورك الجمعة الماضية على أن لا سلام ولا استقرار في الشرق الأوسط دون قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على خطوط الرابع من يونيو عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، تعيش بأمن وسلام إلى جانب إسرائيل، هذا المطلب مجمع عليه منذ عقود مضت كالسراب والفلسطينيون ظمأى له ولكن «الصفقة» التي تلوح في الأفق لا تسمح لهم بالارتواء.