في أبوظبي التأم يومَ الأربعاء الماضي «منتدى الاتحاد» السنوي في نسخته الثالثة عشرة، والذي ضم كتاب الصحيفة، وقد خصص دورته هذا العام لصورة الإمارات في الإعلام، بالتركيز على تجربة التأسيس في عهد باني وحدة الإمارات وراعي تجربتها التنموية الناجحة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه.
لقد بدا لي أن الشيخ زايد شكّل حالة إعلامية فريدة في السياق العربي المعاصر، يستدعي تناولُها التوقف عند مكونات الإعلام الثلاثة: الصورة، الخطاب، وآلية التعبير.
الصورة لا تدخل في النسق الإعلامي مباشرة، بل تتعلق بطبيعة الشخصية العمومية وسماتها التعبيرية الذاتية، بيد أنها أهم وأدق مكونات الشخصية الإعلامية. الزعامات الكبرى التي عرفها التاريخ كانت لها دوماً هذه الخصوصيات التعبيرية المرتبطة بالإشعاع الرمزي الذي اعتبره ماكس فيبر أحد مصادر الشرعية السياسية (الشرعية الكاريزمية).
أما الخطاب السياسي فهو المادة اللغوية البرهانية والحجاجية في النسق الإعلامي، وهو يختلف نوعياً عن أشكال التعبير الثقافي الأخرى، رغم استخدامه لأدوات التحسين البلاغية ومفاهيم الفكر النظري وأساليب الجدل والإقناع.
أما آلية التعبير، فهي الجانب التقني من الظاهرة الإعلامية، ولا ينحصر دورها في النقل والإبلاغ، وإنما تولد بذاتها آفاقاً للدلالة والتعبير والتصور، ومن هنا ندرك المجالات الرحبة التي ولّدتها تقنيات التعبير العمومي من الكتابة إلى المطبعة إلى الإذاعة ثم التلفزيون، انتهاءً بشبكات التواصل الاجتماعي الراهنة.
وبخصوص الجانب الأول المتعلق بالصورة، لا أحد يجادل في أن الشيخ زايد كان من الشخصيات الإجماعية القليلة في العالم العربي، أحبَّه العرب كلهم في مشرقهم ومغربهم بقدر ما أحبه الشعب الإماراتي نفسه.
لم تكن صورته السائدة على شكل الزعيم الثوري الذي تصنع الدعاية الحزبية والتعبئة الأيديولوجية صورتَه لدى العموم، وإنما كانت قوته في واقعيته وصدقه.. في عفويته التي لا اصطناع فيها، وقربه من الناس الذي لا قناع فيه.. مع الاحتفاظ الدائم بهيبة القائد وجاذبية الزعيم.
حدَّثني وزير موريتاني التقى به كثيراً كمبعوث من الرئيس الأسبق المختار ولد داداه، أن أكثر ما كان يشده إلى الشيخ زايد هو هذا الإحساس الغريب بأنه في حضرة شخصية أبوية حنونة، يعامل جليسه بروح الود والألفة، فيخرج من مقابلته رضي النفس مطمئن الفؤاد، وذلك انطباع لم يحدث له مع أي زعيم آخر رغم أنه التقى بكثير من زعماء العالم وقادة الدول.
وما دامت الصورة هي أهم عناصر الوجه الإعلامي لأي شخصية عمومية، فإن الشيخ زايد لم يكن يحتاج في قبوله الجارف لأي دعاية مصطنعة أو تعبئة مزيفة، بل كان يأنف بشدة من هذه المسوح الخادعة، ولا يمكنني أن أسرد في هذا الحيز الكم الهائل من الشهادات التي سمعتها من مواطنين إماراتيين من مختلف الأوساط الاجتماعية في رواية قصصهم الشخصية مع الشيخ زايد، والتي تدور حول المعنى ذاته، أي صورة القائد الأب الشهم والكريم والحليم الذي لا يرد طلباً ولا يقبل ظلماً.
أما الخطاب السياسي للشيخ زايد، فقد اتسم بهذه العفوية المباشرة، بالجمع بين ما يطلب من الزعيم السياسي من شجاعة الموقف وحس المسؤولية. ولقد اتسم خطاب الشيخ زايد السياسي بخصائص ثلاث بارزة هي: اللباقة في التعبير، والوضوح في الطرح، وقوة الإقناع. لم يكن يميل إلى الشعارات الجوفاء واللغة الخشبية، ورغم محبته للشعر الفصيح والنبطي وإقباله عليه، كان يركز في الأدب على جانبه الإنساني والجمالي، ويستنكر تدنيسه بالقوالب الأيديولوجية التي صنعت العديد من الزعامات العربية.
وبالرجوع إلى أحاديث ومقابلات الشيخ زايد الصحافية، يتبين أن أكثر العبارات التي تتردد في معجمه السياسي هي التي تدل على معاني الوحدة والتضامن والتسامح، وهي المقولات المركزية في خطابه السياسي.
أما بخصوص آلية التعبير، فيتعين التذكير بأن الشيخ زايد هو الذي رعى التجربة الإعلامية الإماراتية الحديثة، من تأسيس صحافة محترفة، وإنشاء قنوات إذاعية وتلفزيونية، وفتح البلاد على العالم من خلال الاستثمار الواسع في تقنيات الاتصال المعاصرة.
الصحيفة المقروءة هي من نتاج عصور الأنوار الحديثة، لكونها مادة للتثقيف العمومي والتحقيق الاستقصائي والحوار الفكري الرصين، ولذا كان من الضروري في دولة الإمارات الفتية تأسيس صحيفة وطنية تكون ركيزة إعلامية قوية لمشروع تحديثي تنويري طموح، وهو الدور الذي اضطلعت به صحيفة «الاتحاد» التي كان الشيخ زايد راعيها.
الإذاعة المسموعة ارتبطت في العصور الحديثة بنشأة الدولة الوطنية المركزية، لكونها الأداة الأساسية لخلق ثقافة المواطنة وتوطيد الهوية الجماعية المشتركة، ومن هنا أهميتها بالنسبة لمشروع الدولة الاندماجية الذي سعى الشيخ زايد إلى تحقيقه مع إخوانه حكام الإمارات الأخرى، وقد أدت القنوات الإذاعية الإماراتية هذا الدور الوطني الأساسي.
التلفزيون ارتبط في الحقبة المعاصرة بالتوجه نحو العولمة التي قوضت المفاهيم التقليدية للمكان والزمان، وحولت الصورة إلى مقوم أساسي في حركية التبادل الاقتصادي وديناميكية الإنتاج والاستهلاك، كما أفضت إلى تحطيم الحواجز بين الأمم والثقافات. وكان الشيخ زايد واعياً لأهمية الإعلام الجديد ودوره الأساسي في توطيد التجربة التنموية الإماراتية، ومد إشعاعها ضمن محددات الحالة الكونية الجديدة في إطار قيم التسامح والانفتاح التي كان يدعو إلى التشبث بها في ضبط العلاقات الدولية بين البلدان والمجتمعات والثقافات.