هناك فارق هائل بين احتياج الفئات المنتجة للسلع والخدمات من العمال والفلاحين والحرفيين والمهنيين والإداريين لوقت فراغ، يروحون فيه عن أنفسهم، بعد عمل شاق لا ينقطع، وبين وجود طبقة لديها إمكانيات مادية هائلة، تراكمت بطرق مختلفة، تجد نفسها في استغناء عن العمل، وتفقد، نتيجة لطول وقت الاسترخاء، قدرتها بالفعل على بذل الجهد العضلي والذهني، وتنفر منه نفوراً كبيراً، بل قد يجد بعض أفرادها في العمل دليل عوز، وينظرون إلى من يعملون نظرة استعلاء وغطرسة.
ويرى عالم الاجتماع الأميركي ثورستاين فبلن ( 1857 ـ 1929) أنه في مرحلة ما من الرأسمالية، تزدهر طبقة، وتصير ميسورة الحال، أو تحيا في بحبوحة من العيش، إلى حد أنها تتفرغ لإدارة الفراغ نفسه، ويصبح المركز الاجتماعي عند أفرادها مرتبطاً بالقدرة على التبذير في شراء السلع المادية، حيث تصير هذه العملية معياراً للقيمة أو المكانة، ومصدراً للفخر والمباهاة، وتسند إليها تحديد ما إذا كانت الحياة سخية رخية، فيها ما يفرض التمسك بها، أو أنها ضيقة خانقة لا تستحق أن يحرص عليها الناس.
«فبلن» كتب كتابا أسماه «نظرية الطبقة المترفة» ناقش فيه مركز هذه الطبقة وقيمتها من حيث كونها عاملاً اقتصادياً في الحياة الحديثة، كما يسير في بعض مراحله على أسس النظريات الاقتصادية، راصداً ظهور طبقة المترفين خلال مرحلة التطور الثقافي مع بدء ظهور الملكية، فيما يتعرض لثقافتها الاستهلاكية تفصيلياً وأثرها في المجتمع بشكل عام من خلال 14 فصلًا، كما ناقش عاداتها واعتقاداتها الدينية وصفاتها الموروثة.
لكن هذه الصفة لم تولد مع التطور الرأسمالي فحسب، بل إنها تواجدت منذ زمن طويل، عند أولاد الإقطاعيين الكبار والوجهاء، الذين كانوا يعتمدون على ما لدى آبائهم، ويكتفون بالتمتع بإنفاقه دون أن يشاركوا في إدارته. وقد عرفت مصر ما كانوا يسمون بـ «ذوي الأملاك» والذين أطلت بعض شخصياتهم من صفحات روايات نجيب محفوظ، لاسيما ثلاثيته الشهيرة (بين القصرين ـ قصر الشوق ـ السكرية) متمثلة في أفراد ورثوا عن آبائهم بنايات سكنية كانوا يؤجرونها ويعيشون منها، مكتفين بهذا، دون أن يروا أي غضاضة فيه، بل كان مصدر مباهاة لديهم، حيث يقدم الواحد فيهم نفسه إلى الناس قائلاً: «فلان الفلاني من ذوي الأملاك»، ومثلهم كان هناك في الريف من يعيشون من تأجير أراضهم للمزارعين الصغار.
لكن هؤلاء لم يشكلوا طبقة بالمعنى الاقتصادي، ولم تتح لهم دخولهم التمتع باستهلاك مفرط للسلع المادية، بل إن بعضهم كان يصل إلى حد الكفاية بالكاد، وهناك من بينهم الذين زاوجوا بمرور الوقت بين تقلد وظائف إدارية، أو إطلاق مشروعات حرة محدودة، وبين الاستمرار في الحصول على عوائد تأجير البيوت والأرض الزراعية.
وتوفي «فبلن» قبل أن يأخذ تصوره منحى جديداً مع عصر النفط، الذي قاد إلى ظهور دول ريعية، ما يعني أن ربط هذا التصور بتطور رأسمالي ما، واقتصاره على هذا، ليس كافياً في تحليل سمات أو صفات هذه الطبقة. فالنفط خلق نوعاً من الاتكالية لدى فئات اجتماعية في الدول التي تنتجه بغزارة، وهي مسألة تنبهت إليها بعض الحكومات، فسارعت إلى تنويع مصادر الدخل، وحض الناس على العمل، ونشر ثقافة احترامه بين الأجيال الجديدة.
ومع صعود الرأسمالية، التي جعلت الإنسان في خدمة الاقتصاد، راحت تشغلها مخاطبة غرائز من يشعرون بالفراغ، نتيجة عدم احتياجهم للعمل، وكذلك الذين تراكمت في جيوبهم أموال طائلة، ويبحثون عن طرق لإنفاقها. وهؤلاء، بمرور الوقت، يخلقون حولهم أثراً في غيرهم، وهي مسألة التفت إليها عالم اقتصاد آخر هو «دوزنبري»، الذي حلل أثر التقليد في أنماط الاستهلاك، إذ إن الفرد لا يستهلك ما يطيب لذوقه، وما يختاره بمحض إرادته المنفردة، إنما يتأثر بما يستهلكه الآخرون من أصدقائه وزملائه وجيرانه، وهو ما يدركه مصممو الإعلانات التجارية، التي تثير ضجيجاً حول مختلف السلع، بدءاً من أنواع الأطعمة والملابس وحتى السيارات الفارهة، والمساكن الفاخرة.
إن الله قد خلق جسم الإنسان على أساس أنه كائن يعمل ويكدح، حتى تتدفق الدماء في عروقه وتتجدد الوظائف الحيوية لأعضائه، وقبلهما يشتعل ذهنه بتفكير دائم في تذليل العقبات التي تعترضه، أما الكسل وإدارة الفراغ فلا ينجم عنهما سوى تدمير الجسد بطيئاً، فضلاً عن إهلاك الروح حين يشعر الفرد أنه لا يشكل أي قيمة مضافة للحياة.