أجزاء مهمة من الحكومة الفيدرالية الأميركية أُغلقت منذ يوم الثاني والعشرين من شهر ديسمبر المنصرم، بعد أن فشلت السلطة التنفيذية (الكونجرس) في الوصول إلى اتفاق مرضٍ حول تدابير لضمان التمويل لوكالات حكومية فيدرالية مهمة. قلب المسألة كان هو إصرار الرئيس دونالد ترامب على أن يشمل أي تمويلٍ لعمليات الحكومة مبلغَ 5 مليارات دولار من أجل تأمين إنجاز جداره الموعود على طول كل الحدود بين الولايات المتحدة الأميركية وجارتها المكسيك. وإذا كانت أغلبية من الجمهوريين في مجلس النواب قد وافقت على هذه الميزانية، فإن الديمقراطيين في مجلس الشيوخ رفضوا دعم المقترح؛ وبدون أغلبية 60 صوتاً، وفق قوانين مجلس الشيوخ، لم يمكن بالإمكان تمرير مشروع قانون الموازنة الفيدرالية.
ولأن إغلاق الحكومة تزامن مع عطلة أعياد الميلاد ونهاية العام، فإن تأثيرات ذلك استغرقت بعض الوقت حتى يشعر بها معظم الأميركيين. لكن مع مرور كل يوم في ظل الإغلاق الحكومي، يصبح التأثير أكثر خطورة وأعمق تأثيراً. فالمتنزهات الوطنية، مثل متاحف سميثسونيان الشهيرة في العاصمة واشنطن، ستكون مغلقة بما سيتسبب في غضب وخيبة أمل الكثير من السياح الذين يأتون لزيارة هذه الأماكن. كما أن مئات الآلاف من الموظفين الفدراليين لن يتلقوا رواتبهم ومخصصاتهم الشهرية، وإنْ كانوا سيتلقونها في نهاية المطاف بأثر رجعي عندما يُكسر الجمود وينتهي الإغلاق. بيد أن المتعاقدين الذين يعوِّلون على المال الفدرالي من أجل الحفاظ على نشاط شركاتهم وضمان السيولة التي تحافظ على استمرار عملها، لن يكونوا محظوظين في ظل الإغلاق الحكومي. وبالتالي، فإنه كلما طال أمد هذا الإغلاق، ازداد الألم والغضب بالنسبة لكل المعنيين بالوكالات الفيدرالية المتضررة منه.
ويوم أمس الخميس، أي الثالث من شهر يناير 2019، استعاد الديمقراطيون السيطرة على مجلس النواب الذي ستتولى رئاسته مرة أخرى نانسي بيلوسي، التي تُعد الثالثة في الترتيب لمنصب الرئاسة. ويمكن القول إنه من شبه المستحيل أن تقبل أغلبيةُ مجلس النواب مطلب ترامب إلا إذا كان هذا الأخير مستعداً للموافقة على إدخال تغييرات جذرية على سياسة الهجرة الأميركية، تغييرات يرفضها ويبغضها أنصارُ قاعدته الانتخابية، وتشملُ دعماً لما يسمى «قانون الحالمين»، وهو قانون من شأنه السماح لمن جاء إلى الولايات المتحدة كمهاجر غير قانوني عندما كان قاصراً باكتساب طريق إلى المواطنة، شريطةَ أن يجتاز بنجاح بعض الاختبارات الصارمة في ما يتعلق بمؤهلاته، مثل الخدمة بتميز في القوات العسكرية الأميركية.
وسيسعى الديمقراطيون بكل ما أتوا من إمكانيات إلى اقتراح تشريع للإبقاء على الحكومة الفيدرالية مفتوحةً، لكنهم سيكونون مترددين جداً في قبول التبويب على المبالغ المالية التي يطالب بها ترامب في الميزانية الفيدرالية الجديدة من أجل جداره العازل مع المكسيك. والواقع أن ترامب وأنصاره قد يقدّمون بعض التنازلات بشأن ما يعنونه بالجدار. فالافتراض منذ البداية كان هو أن الجدار الحدودي سيكون حائطاً إسمنتياً ضخماً أشبه بسور الصين العظيم منه بالسياجات والحواجز المألوفة التي توجد على كثير من الحدود الدولية.. لكن الجمهوريين أخذوا يتداولون مؤخراً فكرة مؤداها أن الجدار لن يكون بالضرورة عبارة عن «جدار حقيقي» في الكثير من المناطق، وإنما مجرد حاجز معدني أكثر قوة وصلابة، معززاً بأنظمة مراقبة إلكترونية لرصد المتسللين.
والمثير للسخرية هو أن معظم الأجانب الذين يأتون إلى الولايات المتحدة يدخلونها بطريقة شرعية كسياح ثم لا يغادرونها؛ وبالتالي، يصبحون مقيمين غير شرعيين.
وعلاوة على ذلك، فإن الجدار، وحتى إن أمكن تشييده، لن يعالج المشاكل الحقيقية التي تشمل تهريب المخدرات التي تأتي إلى الولايات المتحدة على متن آلاف الشاحنات والسيارات والطائرات والسفن التي تدخل البلاد عبر الطرق القانونية. ثم إن التحركات الضخمة للمهاجرين غير الشرعيين، الذين يعبرون الحدود، لا تقارن بتحركات ملايين اللاجئين الذين فروا من الشرق الأوسط وأفريقيا إلى أوروبا عقب الانتفاضات التي شهدتها بعض بلدانهم بداية من عام 2011. والحال أن مثل هذه الموجات الكبيرة من اللاجئين يمكن أن تصبح مشكلةً بالنسبة للولايات المتحدة في حال واصلت الاقتصادات في بلدان أميركا الوسطى والجنوبية الانهيار. كما أن انهياراً للحكومات في فنزويلا أو كوبا أو حتى الأرجنتين، يمكن أن يؤدي إلى هجرات جماعية ستكون الولايات المتحدة وجهتها الأبرز. ومن شأن هذا أن يمثّل بالفعل تهديداً استراتيجياً سيتعين على الحزبين السياسيين في الولايات المتحدة العمل معاً من أجل حله.
وخلاصة القول هي أن إغلاق واشنطن سينتهي في الأسابيع القادمة، لكن بشروط ليست في صالح ترامب وأنصاره، إذ سيواجه الرئيس الأميركي، ولأول مرة، قيوداً فعلية على سلطته. ولا أحد يعرف كيف سيكون رد فعله على هذا الأمر وعلى التحديات القانونية الأخرى الكثيرة التي سيواجهها في المقبل من الأشهر.