أجلت رئيسة الوزراء البريطانية «تريزا ماي» الشهر الماضي تصويتاً برلمانياً بشأن اتفاقها المعيب على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكست» مع بروكسل، خشية رفضه وانهيار حكومتها معه. وبعد بضعة أسابيع، لا يزال الاتفاق في الأدراج، مثقلاً بمشكلات جوهرية ولا يبدو أن أحداً سيتمكن من حلها. والآن مع اقتراب موعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في مارس المقبل، تتزايد فرص عدم التوصل إلى اتفاق. ويعني الخروج «من دون اتفاق» ضربة قوية للاقتصاد البريطاني، وهو أمر من شأنه إحداث فوضى في موانئ الدولة وزيادة احتمالات حدوث نقص في الأدوية والبضائع الأخرى. لكن مع اقتراب الدمار المحتمل، يبدو أن انتباه حكومة «ماي» مُنصّب على أماكن أخرى، وبدلاً من الاضطلاع بأعباء المداولات مع أوروبا، يحاول الوزراء البارزون في الحكومة جذب التأييد من المستعمرات البريطانية السابقة.
وفي حوار نشرته صحيفة «ديلي تليجراف» المعروفة بسياستها التحريرية المؤيدة للمحافظين، طرح وزير الدفاع «جافين ويليامسون» رؤية تنطوي على مبالغة كبيرة بشأن «بريطانيا عالمية بعد بريكست» تستأنف من خلالها بلاده دورها المركزي في الشؤون العالمية.
وقال «ويليامسون»: «إنها أكبر فرصة لدينا كدولة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث يمكننا طرح أنفسنا بطريقة مختلفة، فيمكنا لعب دور حقيقي على الساحة العالمية.. ذلك الدور الذي يتوقع منّا العالم أن نقوم به». وأضاف: «إن التحرر من بروكسل سيسمح للحكومة البريطانية بتحويل تركيزها بصورة جذرية تماماً»، لافتاً إلى أن حكومة «ماي» تخطط لافتتاح قاعدتين عسكريتين جديدتين في كل من «الكاريبي» وجنوب شرق آسيا.
وأدلى وزير الخارجية «جيرمي هانت» بتصريحات مماثلة أثناء رحلة إلى جنوب شرق آسيا خلال الأسبوع الجاري. فأشار إلى «العلاقات التاريخية» (الاستعمارية) لبريطانيا مع مجموعة من الدول الممتدة من نيوزيلندا إلى ماليزيا. وذكر «هانت» أن هذه العلاقات هي السبب في أن دور بريطانيا بعد «بريكست» ينبغي أن يكون رابطاً بين الدول الديمقراطية في العالم، لاسيما التي تتقاسم معنا قيمنا وتؤيد إيماننا بالتجارة الحرة وحكم القانون والمجتمعات المنفتحة. ويكاد لا يكون «ويليامسون» و«هانت» هما المسؤولان البريطانيان الوحيدان اللذان يريان مستقبل بلادهما بعد «بريكست» من خلال عدسات الماضي. فالحنين الاستعماري لطالما ألقى بظلاله على الاندفاع نحو الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وقد روّج السياسيون الذين أيّدوا بشدة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لرؤى استعادة المملكة مجدها الغابر بمجرد التحرر من العقبات البيروقراطية في التكتل الأوروبي، وتحدث مسؤولون في الحكومة عن قيام «الإمبراطورية الثانية»، مدعومة باتفاقات تجارية جديدة مع دول الكومنويلث.
وحتى مع ترنّح «بريكست» على شفير الانهيار الشهر الماضي، لم تكن الأطلال الاستعمارية القديمة بعيدة عن الأنظار. وقال مسؤول رفيع في حزب «المحافظين» رفض الإفصاح عن اسمه لـ«بي بي سي»: «لا يمكننا ببساطة السماح للأيرلنديين بمعاملتنا على هذا النحو»، في إشارة إلى مناورة أيرلندا بشأن الوضع المستقبلي لحدودها مع بريطانيا، مضيفاً: «يجب وضع حد للأيرلنديين».
وهذه القناعات، إلى جانب غضب أنصار «بريكست» بشأن الهجرة وقواعد الاتحاد الأوروبي، لطالما أخافت شريحة من الصحافة والشعب في بريطانيا. وأشارت صحيفة «صن داي تايمز» في افتتاحيتها الأسبوع الماضي: «بعد أكثر من أربعة عقود في الاتحاد الأوروبي، نواجه الآن خطر إقناع أنفسنا بأننا نسينا كيفية إدارة بلادنا بأنفسنا». وأضافت: «إن الشعب الذي حكم، في غضون الذاكرة الحية، ربع مساحة العالم وخمس سكانه بالتأكيد قادر على حكم نفسه من دون بروكسل».
لكن إلى جانب الحنين الاستعماري هنا قدر غير قليل من الوهم. فإذا حدث «بريكست» من دون اتفاق، فإن السياسيين البريطانيين لن تكون لديهم رفاهية تدشين مشاريع جديدة بعيداً عن أوروبا، فهم سيتورطون في صراعات سياسية وبيروقراطية لا حصر لها مع القارة، وسيتشاجرون على كل شيء من الترتيبات التجارية إلى الحدود البريطانية مع أيرلندا ناهيك عن وضع مئات الآلاف من المواطنين الأوروبيين على أراضي المملكة.

يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»