يشكل الكشف المبكر عن الإصابة بأحد أنواع الأمراض السرطانية، عاملاً بالغ الأهمية في زيادة فرص النجاة للمصابين. ولذا، بالإضافة إلى الجهود التي تبذل لتحقيق الوقاية ضد الإصابة من الأساس، مثل التطعيم الذي يستخدم للوقاية من سرطان عنق الرحم، أو التثقيف الصحي عن كون التدخين أحد أهم عوامل الإصابة بسرطان الرئة، يبذل العلماء أيضاً جهوداً حثيثة في الكشف المبكر قدر الإمكان في حالة الإصابة.
وربما كان أفضل مثال على ذلك، هو سرطان الثدي في النساء، والذي يستخدم لغرض الكشف المبكر عنه، نوعاً خاصاً من الأشعة (الماموجرافي). وعلى حسب آخر التوصيات، يجب إجراء هذا الفحص بشكل سنوي بداية من سن الخامسة والأربعين، وعند تخطي المرأة سن الخامسة والخمسين، فيكفي حينها إجراء هذا الفحص مرة كل عامين، حتى بلوغها سن الرابعة والسبعين. وتخص هذه التوصيات النساء اللاتي تُعتبر عوامل الخطر لديهن متوسطة أو معتدلة، مع الأخذ في الاعتبار زيادة عدد مرات الفحص، وتقصير الفترة بين الفحوص للنساء اللاتي تُعتبر عوامل الخطر خلف الإصابة بسرطان الثدي مرتفعة نسبياً، مثل وجود طفرة جينية أو وراثية، أو وجود تاريخ عائلي من الإصابة بالمرض.
عوامل الخطر تلك، وأهميتها في تحديد احتمالات الإصابة مستقبلاً، تشكل جوهر فحص جديد طوره علماء جامعة كامبريدج ببريطانيا، يتوقع له أن يغير من مستقبل الفحص المبكر لسرطان الثدي. فعلى حسب هذا الفحص، والذي نشرت تفاصيله في إحدى الدوريات العلمية المرموقة (Genetics in Medicine)، سيتم جمع أكبر قدر ممكن من البيانات والمعلومات عن عوامل الخطر المرتبطة بسرطان الثدي، وجمعها ودمجها مع المئات من المؤشرات الجينية (Genetic Markers)، للخروج بصورة أكثر اكتمالاً، وتقديراً أفضل دقة، لمدى احتمالات الإصابة. وبناء على هذا التقدير، سيتم تحديد ما إذا كانت المريضة تحتاج لعلاج وقائي، أو لتكرار عدد مرات الفحص بالأشعة على فترات أكثر تقارباً، أو ربما حتى استئصال الثدي قبل الإصابة من الأساس.
هذا الخيار، أو استئصال الثدي قبل الإصابة بالمرض، كانت قد اختارته الممثلة الأميركية الشهيرة «آنجلينا جولي» عام 2013، عندما أعلنت عن خضوعها لعملية استئصال مزدوج للثدي، كإجراء وقائي، بعد أن أبلغها الأطباء أن احتمالات إصابتها بسرطان الثدي في مراحل حياتها القادمة، قد تبلغ 87 في المئة. هذه النسبة المرتفعة جداً، والتي تجعل من احتمالات إصابتها بالمرض شبه أكيدة، هي نتيجة اكتشاف إصابتها بطفرة في جين وراثي (BRCA1)، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسرطان الثدي، وبسرطان المبيضين.
وحالياً يحتل سرطان الثدي رأس قائمة الأمراض السرطانية التي تصيب النساء، في الدول النامية والغنية على حد سواء، كما تشهد معدلاته بين جميع الفئات العمرية زيادة مطردة. حيث يعتبر سرطان الثدي من أكثر الأمراض الخبيثة انتشاراً بين النساء، كونه مسؤولاً عن 23 في المئة من جميع الأمراض الخبيثة التي تصيب النساء، وعن 16 في المئة من جميع الأمراض السرطانية التي تصيب الجنس الناعم. وينتج عن هذه النسب المرتفعة من الإصابات نحو نصف مليون وفاة سنوياً، أو 14 في المئة تقريباً من جميع الوفيات التي تقع بين النساء نتيجة الأمراض السرطانية، وهي نسب إصابات ووفيات أعلى من تلك التي يتسبب فيها سرطان الرئة بين النساء.
وترد هذه المعدلات المرتفعة من الإصابة، ومن الوفيات الناتجة عنها، إلى عدة عوامل، مثل ارتفاع متوسط العمر أو مؤمل الحياة، وزيادة ظاهرة التمدين أو الحياة في المدن، وانتشار نمط الحياة الغربي.
ففي الآونة الأخيرة، زاد الإدراك بأهمية نمط وأسلوب الحياة، وخصوصاً الممارسات الصحية الشخصية، في رفع أو خفض احتمالات الإصابة. حيث خلصت بعض الدراسات إلى أن 21 بالمئة من جميع الوفيات بسبب سرطان الثدي حول العالم، يمكن ردها للإفراط في شرب الكحوليات، وزيادة الوزن، والسمنة المفرطة، وضعف وفقدان النشاط البدني وقلة ممارسة الرياضة.
ويمكن لحد كبير تفسير ارتفاع معدلات الإصابة بين الدول الغنية، مقارنة بانخفاضها في الدول الفقيرة والنامية، على أساس الاختلافات في العادات الغذائية بين تلك الدول، بالإضافة إلى ارتفاع سن الحمل والولادة في الدول الغربية، وقلة الإنجاب بوجه عام، وقصر فترة الرضاعة الطبيعية. ولذا يخشى أن التبني المتزايد لنمط وأسلوب الحياة الغربية من قبل شعوب وأفراد الدول النامية والفقيرة، سيؤدي بالضرورة إلى ارتفاع معدلات الإصابة بسرطان الثدي بين نساء تلك الدول، وبعدد الوفيات التي ستنتج عنها.