بالنسبة لي، الشيء الأكثر إزعاجاً بخصوص رئاسة ترامب هو الطريقة التي يحاول بها كل أسبوع، وعلى غرار قطرات محلول حمضي متتابعة، التسبب في تآكل الشيء الذي يجعل أميركا عظيمة حقاً كبلد يغبطه الكثيرون حول العالم: استقلالية محاكمنا، وجيشنا، ومكتبنا للتحقيقات الفيدرالي، وحرس الحدود، وكل جهازنا البيروقراطي الفيدرالي.
ذلك أن لا رئيس في تاريخ أميركا الحديث كان أكثر رغبة منه في استخدام أفراد الجيش الأميركي أو شرطة الحدود للدفع بأجندته السياسية، وفي القول من دون أي دليل إن معظم الموظفين الفيدراليين الـ800 ألف الذين لم يتقاضوا رواتبهم خلال الإغلاق الحكومي «ديمقراطيون»، وفي الإشارة إلى قادة البنتاجون بـ«جنرالاتي» و«جيشي»، وفي التنديد بقضاة فيدراليين مختلفين حكموا ضده ووصفهم بـ«المسمى قاضي»، و«قاضي أوباما» والقاضي «المكسيكي» (برغم أنه ولد في ولاية إنديانا).
لماذا يُعتبر هذا مهماً جداً؟ لأن مؤسسات أميركا الدستورية لم تؤسَّس لتكون «محافظة» أو «ليبرالية»، وإنما لتأخذ قيمنا ومثلنا وتحرّكها وتروجها وتحميها. إنها الاستمرارية التي تربط جيلاً من الأميركيين بالجيل التالي، والمنارة التي نهتدي بنورها بخصوص كيف نعمل معاً من أجل بناء اتحاد أكثر قوة ومثالية.
في أحسن الحالات، خلقت هذه المؤسسات الأسس التنظيمية والأطر القانونية والأمنية التي جعلت أميركا عظيمة – والتي أتاحت انتشار الابتكار، وازدهار التجارة، وتبرعم الأفكار. وبدلاً من أن تخدم حزباً معيناً أو نزوات شخص معين، دعمت هذه المؤسسات القيم والقوانين والقواعد والمثل الأميركية وحمتها.
فاستقلالية مؤسساتنا وعدم تحزبها هو أحد أهم الأسباب التي تجعل الكثير من الأشخاص يرغبون في الهجرة إلى أميركا، بل والتي تجعل بعض الأشخاص مستعدين لبناء طوف من كرتون علب الحليب للقدوم إلى هنا. ولهذا فعندما يشوّه مسؤول أميركي سمعة هذه المؤسسات، ويحاول تقويض استقلاليتها أو توظيفها سياسياً، فإنه يؤذي ويدمّر صميم ما يجعل بلدنا فريداً ومتميزاً.
ولهذا أودُّ اليوم أن أبعث بتحية تقدير وإجلال لقاضي المحكمة العليا «جون روبرتس» لتحليه بالنزاهة والشجاعة، ولرسمه خطاً أحمر حول الجهاز القضائي، ولبعثه بإشارة قوية لترامب – بأدب ولكن بصرامة – «ابق يديك بعيدتين عن استقلالية القضاء وطابعه غير الحزبي».
روبرتس قام بذلك في نوفمبر الماضي، بعد أن علّق قاضٍ فيدرالي في سان فرانسيسكو سياسة ترامب الخاصة باللجوء، وندّد به الرئيس واصفاً إياه بـ«قاضي أوباما». ورداً على استفسار من وكالة «أسوشييتد برس»، قال روبرتس: «ليس لدينا قضاة أوباما أو قضاة ترامب، قضاة بوش أو قضاة كلينتون. بل ما لدينا هو مجموعة استثنائية من القضاة المتفانين في عملهم، والذي يبذلون قصارى جهودهم للحكم بعدل بين من يمثلون أمامهم».
وأضاف روبرتس، في ذلك اليوم قبل «عيد الشكر»، إن «استقلالية القضاء شيء ينبغي أن نكون جميعاً ممتنين له». هذه الرسالة القوية من روبرتس كانت غير مألوفة لحد كبير، ولكنها مثّلت مثالاً مهماً لآخرين. وبالطبع، فإن قضاتنا يعيَّنون من قبل سياسيين يحدوهم الأمل في أن يعكسوا ميولاتهم أو ميولات حزبهم الإيديولوجية بخصوص المواضيع التي تُعرض عليهم – وهم كثيراً ما يفعلون.
وروبرتس يعرف ذلك. ولكن ما يعرفه أيضاً هو أن المهم والمركزي بالنسبة لنظامنا هو أن كل مواطن أميركي بوسعه توقع محاكمة محايدة أمام القضاة، الذين ينبغي، بمجرد توليهم مهامهم، ألا يدينوا بالولاء سوى للدستور وتأويلاتهم له.
وشتان ما بين هؤلاء وزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ «ميتش ماكونيل» ورئيس مجلس النواب «بول ريان» الذين قاموا بليّ الدستور والجهار التشريعي، وإخضاعه لإرادة ترامب.
لقد قضيتُ أربعة عقود كمراسل صحافي في بلدان ذات مؤسسات ضعيفة – مثل روسيا، والصين، وكل دولة عربية، وتركيا، وإيران، وفنزويلا – حيث رغبات الزعيم أو حزبه هي أساس كل عمليات صنع القرار، وليس حكم القانون، القائم على المؤسسات المستقلة.

والواقع أن المرء لا يمكنه المبالغة أبداً بشأن مدى غرابة واستثنائية أن يتحدى قاضٍ من المحكمة العليا ومسؤولون عسكريون كبار سابقون ترامب على نحو ما فعلوا. فقد نشأوا وتربوا على أن يُبقوا أنفسهم ومؤسساتهم بعيدا عن السياسة بأي ثمن. ولكنهم يدركون الثمن الأكبر لما يقوم به ترامب.
ولهذا نحن مدينون لهؤلاء الأشخاص بالشكر لشجاعتهم الوطنية، لأن أكبر تهديد للأمن القومي لبلدنا اليوم هو داخلي.
https://www.nytimes.com/2019/01/15/opinion/trump-roberts-shutdown.html
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»