يبدو أن الحمامة البيضاء التي حامت مطولاً في أرجاء العالم، قد وجدت عشها الدافئ أخيراً ليحط على ربوع الإمارات، متخذةً من سماء عاصمتها أبوظبي محطتها الأولى ومأسستها المرتكزة على المحبة والسلام والتسامح والوئام بصورة تاريخية تسمو على الشعارات والتنظير لتُعاش على الواقع، باحتضان الرؤى، وشبك الأذرع، وعلو الهمم، وتهادي الابتسامات النابعة من المحبة الراسخة التي جُبلت عليها الإنسانية فوق أراضٍ السماحةُ فيها والتسامح وجهان لقلب واحد.
مع وصول الوفود من مختلف الأعراق والأديان، ومتشابه في العشق والوجدان، انهمرت على أبوظبي أولى البهجات بنزول غيثٍ غزير، روى الأرض وأثلج صدور الغيورين من أبناء البشرية على المعاني الإنسانية، مقبلين بلهفة على هذا اللقاء التاريخي الذي اختصر كل المسافات، وضم كل ما تحمله الندوات والدعوات والمؤتمرات والجهود الدولية والعالمية وحتى الفردية المقدمة بغية التطوير والنهوض ونبذ التطرف والتعصب والإرهاب، إذ أن لقاء الأخ الإنسان هذا قام على المحبة باحتضان وتقديم أكبر قطبين دينيين في العالم، يجمعهما عامل تناغم مع السلم والسلام، ليقدما رسالة لا رجعة فيها مفادها بأن أبعد مسافة هي الأمس، وأقربها الغد المشرق الذي تطمح له الأجيال، وأن الإيمان بالله عاملُ تجمعٍ لا تفرقٍ، واقتراب لا ابتعاد.
إن هذه اللفتة السخية التي تعتبر بمثابة البسملة للشروع بـ«عام التسامح» توجت من شيخ كريم ابن الوالد المؤسس المغفور له الشيخ زايد، إنه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الذي حمل على عاتقه مسؤولية بناء وتشييد جسور الأخوة وترسيخها بروابط الإنسانية، ليقلب صفحة الحوار بين الأديان من جانبها النظري، مرسياً قيمها على الميدان من خلال تعزيز التعاون والتعاضد والتعايش المبني على التسامح، وليعيد بث الحياة في مفهوم «الأخوة» الذي يجمع تحت مظلته المسلم والمسيحي والبوذي وغيرها من الأديان، فالأخ هو من يشترك معي في المعتقد أو يشابهني بـ«الإنسانية»، فلذي جاء في رسالة الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى مالك بن الأشتر النخاعي:«الناس صنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق..».
ومنذ بزوغ خيوط النور الأولى للعلاقات الدبلوماسية بين الإمارات والفاتيكان التي خطت أولى خطواتها منذ اثنتي عشرة سنة، ولا زالت الإمارات تتقدم أكثر فأكثر لتدعيم مرتكزات التعاون المشترك في المجالات على اختلافها، وترسيخ حوار الأديان للخروج بنتائج ملموسة على أرض الواقع تعود على البشرية بالنفع والوئام، إضافة للمضي بثقة عالية في مجال تعزيز قيم التسامح على البقعة العالمية. وكما قال العلامة معالي الشيخ عبد الله بن بيه – حفظه الله – يبقى:«التسامح الإنساني من أسمى أنواع النبل والكرم والأخلاق الفاضلة». فأوراق شجرة التسامح اليانعة في الإسلام نمت منهجيتها ببذور سليمة الفطرة تغذت على مبادئ الحوار والتفاهم وقبول الآخر دون الالتفات لأي عامل اختلاف إلا بأنه إضافة مثرية، وعنصر مهم في البناء التكاملي لتشكيل نسيج مجتمعي حضاري.
وتحت رعاية القائد الحاني على الإنسان صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، اجتمع أكثر من مائة وخمسة وثلاثين ألف قلب، في مكان واحد وزمان واحد مع تسخير كل الإمكانات التنظيمية والتسهيلية استعداداً لقداس البابا فرنسيس، لتجتمع الأفئدة وتتوحد على المحبة، ولتنادي بالأرجاء بأن مستقبل الأجيال القادمة هو من صنع أيدينا وعقولنا التي تعيش الحاضر، محدقة بأبنائنا الذين نرى فيهم قادة ومفكرين وعلماء ومعمرين للأرض وللإنسان ومنبتين للسلام من بذرة،،الأخوة الإنسانية،،. بتصافح الأيادي المباركة للبابا فرنسيس والإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، بدأ ميلاد عهد عالمي جديد ونداء لعقلاء هذه الأرض للإيمان بمنطلقات الحوار والقبول والشراكة، الآمال التي لا حد لها، وبأن مشروع السلام العالمي تبدأ ولادته من وجدان كل إنسان منا، وبوصوله لسدرة القناعة والرحابة بأن،،الأنا والآخر،، لا يختلف منا إلا المظهر، وتجمعنا الأخوة والإنسانية بل والمادة التي جبلنا عليها وخُلقنا منها، فلو أراد الله لخلقنا من تراب جاف، ولكن لين الطين فينا مقصوداً.