«لابد من الخروج عن الشعارات والتنظير»، جملة أصبحت إلزامية الطرح في المؤتمرات والندوات والأنشطة والمشاريع مع الاكتفاء بذلك على الأغلب، وهذا على عكس ما تنتهجه الإمارات بحكمة قيادتها الرشيدة، التي تربط الأقوال بالأفعال، ملحقةً المشروع الأكبر لـ«عام التسامح»، و«لقاء الأخوة الإنسانية»، بخطوة تؤكد من خلالها الحاجة الملحة للنهوض والنهضة ولتحقيق الإتقان بالمعنى الحقيقي، وذلك بتأسيس «صندوق زايد العالمي للتعايش»، كخطوة استثمارية أولى لهذا الإنجاز البرّاق، إيماناً بأهمية تربية النشء، وتغذية منابع فكره بقيم التسامح والتعايش السلمي المشترك، بانيةً صورةً دقيقة الحواف وسليمة الصِّبغة ومشرقة الملامح، عن الآخر وعلاقة المجتمعات بما يسمى «الآخر».
إن بداية هذا العام لم تكن إلا مذهلة، فهي لا تشبه البدايات في تدرجها، بل واكبت وتفوقت على أكثر الخواتيم جمالاً وتناغماً، فالبداية التي بنيت على نهج المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آن نهيان، ممتدة، ولا زالت تُروى بإخلاص من صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، تعتبر النقلة النوعية للإمارات، شعباً وفكراً وحضارةً من الإرادة إلى الريادة.
ها هي الإمارات وقد وقعت «الوثيقة الراسخة» منبتةً برعماً قيمياً ومفاهيمياً وفكرياً لليوم وغداً، وبخاصة بعد الإرادة السامية الموجهة من صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، حفظه الله، بتأسيس «صندوق زايد العالمي للتعايش» دعماً للجهود الرامية للبناء الخلّاق على الفطر السليمة والازدهار بها، كما أن الوثيقة ستكون موضوع بحث بالمدارس والجامعات والمعاهد، ما يعزز السعي الجاد لتعميق وتأصيل وتفعيل دواعم التعايش ونظام العقد الاجتماعي الرصين على المستوى المحلي والعالمي، مكللاً بإيمان القيادة الحكيمة بأن أجيالنا القادمة هي أجيال حاملة لمشعل التآخي والسلام بسلوكها وأفعالها وإنجازاتها، مستبعدةً الجانب التنظيري، مثريةً أرضية خصبة لأجيال السلام، جيلاً بعد جيل.
حينما تعانقت الإنسانية في مشهد مهيب شدّ الأفئدة قبل المقل، ترسخت في الأذهان الواعية تلك الرسالة المشرفة، إعلاناً رسمياً حضارياً وشامخاً لبدء عهد جديد، واثباً خطىً واثقة متمسكة بالحق في أول زيارة للبابا فرنسيس برفقة فضيلة شيخ الأزهر، لمنطقة الخليج العربي عامةً والإمارات خاصة، بلقاء يعتبر الأفرد من نوعه والأمس حاجةً لوجوده، إذ يعتبر بمثابة إعلان صريح وعاجل بأن وقت العمل في هذا الاتجاه قد حان للقيام بإجراء فعلي للخروج من فخ «الإقصاء والعزلة الفكرية» الذي يوهم مرتاديه بأن جل الأمور تقوم على ترصد حكم الشرع بالترحم على من يخالفني في الدين والمعتقد، أو الامتناع عن ذلك، فوجب علينا الابتعاد عما يعطل وظيفة العقل الذي ميزنا الله به كانشغال العقول بقول «هم يفعلوا»، أو«هم يحللوا أو يحرّموا»، فالأحرى بنا جميعاً، وبلا استثناء خلق نية وإرادة منقوشة على أرض الواقع لفهم واستيعاب فحوى ديننا، لردع سيل الانقياد والالتفات لزوايا مظلمة ناحيةً بالركب وطاقاته الفذة عن مسيرها الواثق الذي خلقت ليكون كذلك، والدفع بنقلتنا من التشبث بالمبادئ سليمة الفطرة إلى التشبث أيضاً بأيدي إخواننا من الأديان كافةً، مربتاً كل منا على كتف «أخيه الإنسان»، عوناً وتسامحاً وتعايشاً، لأن شجرة السلام عالمية المنبع، ولا تقتصر على تربة دون الأخرى، إذ تشتبك جذورها الغليظة منها والدقيقة في تراب احتضنت رماله أخصب نسيج، مندمجاً ومنسجماً مع الأطياف والأعراق والأديان كافةً، ولذلك، فهي تربة خصبة غنيّة بتنوعها.
إن رسالة دولة الإمارات التي قدمت للعالم، تبرز عمق الرؤية الحكيمة والوجدان الإسلامي الحاضر لدى شيوخها، والذي يذكرني بقول رسول الرحمة والتسامح - وهو ما يجب الأخذ به كقاعدة تعامل منظمة للفكر ومرسخة للتعاملات - فحين وجه النبي - صلوات ربي عليه – المسلمين أكد بأنه لا مجال للمناصب ولا للعصبيات الجاهلية، ولا مجال في الإسلام لعصبية العرق والنسب ولا لعصبية الأرض والموطن، ولا اللهجة ولا لعصبية الجنس ونوعه، ولا لعصبية اللون أو اللسان، وهذا الأساس القرآني قد وضع لبناء وترسيخ قاعدة بناء المجتمعات بعيداً عن وباء التهميش والتمييز.
ومن اللافت لمن تدارس سيرة الوالد المؤسس الشيخ زايد - أحاطت به رحمات ربي - تلك الصورة المؤثرة المطلقة لعَبرَةِ الفخر، بتوقيع «وثيقة الأخوة الإنسانية» بنسخها الثلاث، واختتام الجمع الطيب وترسيخه من خلال التوقيع التذكاري الذي هو بمثابة أرقى تذكار يتم توقيعه في «صرح زايد المؤسس» جامعاً بين أكبر رموز عالمية للتعايش والتسامح والوئام، تقف خلف هذه الهمم ملامح زايد المتلألئة على الصرح، لتذكرنا جميعاً بواجبنا تجاه هذه الأرض التي لمع جبين مؤسسها قديماً، ولكن من ذرات العرق التي بذلها حباً لبناء الأسطورة الإماراتية العالمية، لبنةً لبنة وإنساناً إنساناً، هذه الأسطورة التي جعلت من بناء وإصلاح البشرية مرتكزه الأول أينما حل أو ارتحل!