في وثيقة «الأخوة الإنسانية» التي وقّعها في أبوظبي البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية والإمام أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف نص يقول:«اعتبار التطرف الديني والقومي والتعصب في الغرب أو الشرق، منطلقاً لبوادر حرب عالمية ثالثة على أجزاء». وحذر النصّ «من خطورة ذلك على الإنسانية كلها». فالتطرف الديني الذي انفجر في بعض دول الشرق، يتلازم مع التهميش الديني الذي انفجر أيضاً في بعض دول الغرب، وكانت النتيجة ارتفاع موجة «الإقصائية» هنا وهناك. وقد تمثّل ذلك في تسييس الدين في الشرق واستخدامه أداة لقهر الأقليات الدينية، وتمثل في الغرب بانتشار ظاهرة الشعبوية بمعناها الوطني الضيق، والإلغائي للآخر المختلف.
عرف الغرب هذه الظاهرة الخطيرة قبل الحرب العالمية الثانية التي تمثلت في النازية والفاشية بصورة خاصة. وكانت تلك الشرارة التي أضرمت الحرب العالمية الثانية. ومن هنا الإشارة في وثيقة الأخوة إلى التحذير من الانجرار إلى حرب عالمية ثالثة. وقبل ذلك، عرف الغرب أيضاً ظاهرة التعصب الديني التي انفجرت حروباً إلغائية بين الكاثوليك والإنجيليين –البروتستانت. ففي ألمانيا وحدها سقط أكثر من عشرة ملايين ضحية لتلك الحرب التي لم تنجُ منها فرنسا أيضاً وعلى نطاق واسع. إلا أن النتيجة هي أن أحداً لم يستطع إلغاء أحد. فقد أدرك الجميع أنه لا بد من احترام التعدد والاختلاف والعيش المشترك، فتبنّت فرنسا العلمانية في عام 1901 – فصل الدين عن الدولة- أساساً لاستعادة وحدتها الوطنية.
أما في الشرق، فإن تقسيم الهند في عام 1947 جرى على أساس ديني بين المسلمين والهندوس، وذهب ضحية ذلك مليون إنسان. ولا يزال جمر تلك الحرب متوقداً في كشمير حتى اليوم. والجرائم التي ارتكبها المتطرفون الإرهابيون في سوريا والعراق ضد المسلمين والمسيحيين والأيزيديين وسواهم من الجماعات الدينية والعرقية المختلفة مؤشر على أن هذه الحرب قابلة للاشتعال مرة جديدة، وعلى أن النافخين في أوارها من جهلة الداخل، ومن متآمري الخارج هم على استعداد دائم للمحاولة من جديد، إذا لم يقتلع الوعي الديني هذه الجماعات فكرياً وثقافياً وتربوياً ودينياً على المبادئ التي دعت إليها الوثيقة بين البابا فرنسيس وإمام الأزهر الشيخ أحمد الطيب.
وخلافاً لمقولة الشاعر الانجليزي كيبلينج «الشرق شرق والغرب غرب، ولا يلتقيان»، فإن الشرق ممثلاً دينياً بالإمام الدكتور أحمد الطيب، والغرب ممثلاً بالبابا فرنسيس، التقيا في أبوظبي. وكان لقاءً على الخير، وعلى الدعوة إلى الأخوة الإنسانية وعلى التحذير المشترك من مخاطر سوء توظيف الدين من جهة، ومن سوء تهميشه من جهة ثانية. وكرّسا معاً هذا الالتقاء بإعلانهما انهما يعتبران «العلاقة بين الشرق والغرب ضرورة قصوى لكليهما». في عام 1965 صدر عن الفاتيكان موقف من الإسلام عبّرت عنه بإيجابية وانفتاح إيماني وثيقة «نوسترا أيتاتي»، أي «حالة عصرنا». وهي الوثيقة التي قلبت موقف الكنيسة من الإسلام رأساً على عقب. من سلبية جاهلة، إلى إيجابية إيمانية متفتحة ومنفتحة.
وفي عام 2016 صدر عن الأزهر بيان يؤكد على المواطنة العادلة. كما يؤكد على الحريات العامة و«أمّها» الحرية الدينية. وأسقط الأزهر مقولة الأكثرية والأقلية ورفَعَ لواء المساواة في الحقوق والواجبات. وفي عام 2019 صدرت عن الفاتيكان وعن الأزهر معاً، ومن أبوظبي، الوثيقة المشتركة، ولعلها الوثيقة الإسلامية – المسيحية الأولى في تاريخ علاقات الإسلام بالمسيحية والتي تصدر عن أعلى مرجعيتين دينيتين، وتقول معاً بما قالت به «نوسترا إيتاتي» وما قالت به بيانات الأزهر. فالمسلمون والمسيحيون الذين يشكلون معاً نصف سكان الكرة الأرضية تقريباً، والذين يعيشون معاً في القارات الخمس، يجدون اليوم قاعدة دينية فكرية وروحية إسلامية – مسيحية مشتركة للعيش معاً باحترام ومحبة وسلام.. وتلك أهم هدية تقدمها أبوظبي للعالم.